الدولـــة الوطنية في اللحظة الراهنة: داء أم دواء!!؟؟
نسيب شمس – أبو نادر (باحث وإعلامي)
الخميس 18 – 04 – 2019
بمناسبة مشاركتي يوم الخميس 18 نيسان / أبريل 2019، مطعم
الساحة، في اللقاء الحواري الأول، من تنظيم موقع بيروت نيوز عربية، ومن خلال ما سمعته
من المشاركين، حول ما يعاني "النظام الإقليمي العربي"، كان هناك تقاطع
فيما بين كلمات أو خطب ارتجالية لكن متماسكة ومتناسقة (في ظل غياب النصوص
المكتوبة)، ولفتني جداً المناداة بالعودة إلى "الدولة الوطنية"، كما ورد
الكثير من التشخيص لمكامن العلل، ولقد لفتني الكم الهائل من النقد البناء أضف إلى
المستوى العالي لبعض المتحدثين في التشخيص وتقديم المراجعة المميزة، إن لم نقل أن
البعض تحدث وفق مقولة " كما لو أنه يتلو فعل الندامة". ولقد رأيت أن أقدم
هذه المساهمة العلمية لعلها تساعد في وضع بعض من دواء لبعض مكامن الداء، خاصة في
أننا لم نعد بحاجة للكثير من التحاليل والتشخيص لما نعاني، فنحن بحاجة ماسة وعاجلة
للبدء بتقديم الدواء، فنحن بحاجة أكثر للبدء بالعمل الجاد في الدراسة والبحث
والتفكير بجدية وبعمق أكثر بعيداً عن الوصف والتشخيص. ولعل هذه الوريقات تكون
نافعة للانطلاق نحو تلمس الدرب إلى الشفاء، وعودة الصحة والمناعة لحضارتنا التي
على مرتكزاتها قامت كل الحضارات، حيث شكلت حضارتنا حلقة وصل وتواصل في ركب تطور
الفكر والتفكير، فكانت حضارتنا التي تقوم على مزيج ثقافي متعدد، أي التعددية
الثقافية الحرة في العالم القديم. هذه الحضارة التي شكلت رافعة للحضارة العالمية
والتي أدت إلى ما نشهده اليوم من تطور عظيم في أنحاء العالم، الذاهب إلى أن يتحكم
به ما أبدعه عالم أسمه " الخوارزمي"، حيث أن المستقبل سيكون محكوماً
بشدة من "الخوارزميات"، ولكن بدون حضارتنا سيكون ذلك مدمراً، ولكن
بالعودة إلى قلب العالم القديم الذي أنتج من خلال التعددية الثقافية الحرة خوارزميات
لتكون في خدمة الإنسان، وليس الإنسان في خدمات الخوارزميات. ولا بد من التنبه
واليقظة للـ "خوارزميات".
بداية، لا بد من محاولة للرجوع إلى كل ما تم تداوله من
سرديات عن الدولة، حيث اختلف فقهاء القانون الدستوري حول أصل نشأة الدولة، مما أدى
تاريخياً إلى ظهور اتجاهات متمايزة حول أصل نشأة "الدولة":
-
الاتجاه الأول ويتمثل بالنظريات التيوقراطية أو الدينية.
-
الاتجاه الثاني ويتمثل بالنظريات الديمقراطية.
-
الاتجاه الثالث ويتمثل بنظرية القوة.
-
الاتجاه الرابع ويتمثل بنظرية التطور العائلي.
النظريات
التيوقراطية
تخلص النظريات التيوقراطية أو الدينية بشأن صل نشأة
الدولة في أن الدولة نظام إلهي، وأن السلطة فيها مصدرها الله. فعدالة السماء هي
التي تتدخل لإطفاء الحكام، ومن ثم يجب أن تسمو إرادتهم على إرادة المحكومين. وأن
الإرادة الإلهية زهي التي تُؤثّر الحكام دون سواهم بالسيادة والسلطان. استخدم ذلك
في توطيد سلطان الملوك والأباطرة، وتبرير استبدادهم وعدم فرض أية رقابة على
أعمالهم، طالما كانوا – ووفقاً لهذه النظريات التيوقراطية – غير محاسبين إلا أمام
الله، فطبيعتهم تسمو فوق الطبيعة البشرية وإرادتهم تعلو على إرادة المحكومين.
اتفقت النظريات على التأسيس على أساس ديني، لكن اختلفت في اختيار الحكام وفقا نظريات
ثلاث:
1- نظرية الطبيعة الإلهية
للحاكم:
رأت أن الحاكم يكون من طبيعة إلهية، فهو لم يكن مختاراً
من قبل الإله بل هو الإله نفسه.
2- نظرية الحق الإلهي المباشر
أو التفويض الإلهي:
رأت أن الحاكم هو إنسان من البشر يصطفيه الله ويودعه
السلطة، والحاكم يستمد سلطته من العناية الإلهية وحدها دون أي تدخل من البشر في اختياره،
واختياره يكون من الاله بطريق مباشر.
إذا اختلفت النظريتان في طبيعة الحاكم، الحاكم هو الإله
ذاته في الأولى، وفي الثانية هو بشر ولكنه مختار من الإله. ولكن النظريتان تتفقان
في إعطاء الحاكم سلطات مطلقة غير مقيدة، ومن غير الجائز محاسبته على أفعاله أو أخطائه
من المحكومين.
3- نظرية الحق الإلهي غير
المباشر أو العناية الإلهية:
بسبب المغالاة في النظرية السابقة، ونتيجتها المرعبة في
ممارسة الاستبداد، قالت هذه النظرية بأن الاله لا يختار الحاكم بطريقة مباشرة، وان
السلطة وأن كان مصدرها الاله، لكن الشعب هو من يقوم باختيار الحاكم، ولكن عن طريق إرشاده
من قبل الاله وتوجيهه نحو اختيار حاكم معين. والمرتكز هو العناية الإلهية التي كما
تستطيع ترتيب الأحداث وتوجيهها، فهي إذا ًقادرة أيضاً على توجيه إرادات الأفراد
نحو الطريق الذي يؤدي بهم إلى اختيار الحاكم.
النظريات
الديمقراطية
تقوم نظريات الديمقراطية، على أساس أن السلطة مصدرها
الشعب. لقد حصل الافتراق عن النظريات التيوقراطية التي أسندت السلطة إلى الله
وحده. ولعل أهم النظريات الديمقراطية "نظرية العقد الاجتماعي"(Theorie du contrat social)، وقد نسبت إلى الفرنسي جان جاك روسو، ومن
باب الإنصاف، سبقه إليها فلاسفة اليونان، وتم تداولها من قبل رجال الكنيسة
المسيحية لمحاربة الملوك لصالح السلطة البابوية. وحمل لواء "العقد
الاجتماعي" كل من: هوبز، ولوك، وروسو.
نظرية
القوة
السلطة أساسها القوة، بكل اختصار، كما رأت هذه النظرية
أن نظام الدولة هو نظام مفروض عن طريق القوة، حيث يفرض صاحب الغلبة نفسه عن طريق
العنف على باقي أفراد الجماعة الذين يمتثلون لقوته ويخضعون لسلطانه.
نظرية
التطور العائلي
ترتكز هذه النظرية على فكرة السلطة الأبوية، أي أن
الدولة في أصلها أسرة، وتطورت إلى عشيرة، ومن ثم إلى قبيلة التي تطورت لتكون
المدينة ثم لتصل طور الدولة. أي أن أصل الدولة هو الأسرة على اعتبار أنها الخلية
الأولى في المجتمع. مما يعني أن سلطة الحاكم أو رئيس الدولة تعود إلى سلطة الأب أي
رب الأسرة الذي يمتلك سلطة الأمر والنهي بالنسبة لأفراد أسرته.
سردية
"الدولة الوطنية"
وبناء على
ما تقدم، وفي ظل انبعاث "سردية عودة الدولة"، وخاصة "سردية الدولة
الوطنية"، ربما لا توجد سردية سياسية أكثر رسوخاً، وتجذراً في
التفاعلات السياسية من سردية الدولة الوطنية. مفهوم الدولة الوطنية، من أهم هذه
المفاهيم التي وجد العامل في الشأن السياسي نفسه أمامها. والجدير
بالذكر إن مصطلح الدولة الوطنية، ليس حديثًا، أو وليدًا لم يتجاوز عمره بضعة شهور،
أو سنوات، إنما هو من عمر الدول الحديثة ذاتها، وتعود نشأته إلى عصر النهضة
الغربية، ونشأة الدولة القومية، فالدولة الوطنية هي دولة الأمة، أو الدولة القومية،
وربما من المفيد هنا التعريج على مصطلح القومية أيضًا، في محاولة لإزالة الفهم
الخاطئ الذي أدّى، لدى كثر من العاملين في الشأن السياسي، إلى وجود تعارض أو
تناقض، أحيانًا، ما بين الوطنية، والقومية؛ فالوطنية والقومية مصطلحان يدلان على
الشيء ذاته، وهو مجموعة الروابط العليا التي تربط بين سكان دولة ما، لتحول هذه
المجموعة السكانية، من مستوى المجتمع المتنوع، إلى مستوى الوحدة السياسة، أي
الشعب، فالدولة الوطنية، بصياغة أخرى، هي دولة عموم المواطنين، هي دولة الأمة،
دولة الشعب. فعلى الرغم من ارتباط نشأة هذه الدولة في هيئتها الحديثة بمعاهدة صلح
وستفاليا عام 1648. فإن بناء الكيانات المنظمة للتفاعلات السياسية ارتبط بنشأة
العمران البشري ذات. وما صاحبه من نزوع فطري لتنظيم المجتمعات. وبزوغ سلطة عليا
لحفظ بقائها. وهو ما توافق عليه فلاسفة العقد الاجتماعي، برغم التباين الكامل بينهم
في إدراك القوة الكامنة وراء بناء الدولة. يعني ذلك أن نشأة الدولة ذاتها كانت
نتاج "رواية الضرورة “،” سردية البقاء"، أو "الإرادة العامة"،
وفقاً لجان جاك روسو. التي هيمنت على الخطاب السياسي للنخب السياسية منذ ذلك
الحين. وترافق معها نشأة عدد كبير من المفاهيم والمنظورات الداعمة لبقاء الدولة.
التي تحولت بمرور الوقت إلى أركان مادية، متضمنة في كيان الدولة ذاته، مثل
السيادة، والاعتراف الدولي، والشرعية.
وتتشكل
رواية الدولة من عدة أركان أساسية، تتمثل في الآتي:
1- السيادة الوطنية: تؤكد السردية الدولانية (Statism) أن الدولة
تملك الاختصاص الحصري والسلطة العليا في الإقليم لذي تنشأ به، بحيث تفرض على جميع
الوحدات والفاعلين ما دونها (Sub-State
Actors)، ولا يمكن
للفاعلين من خارج الدولة التدخل في اختصاصاتها، أو تحدي سلطاتها داخل هذا الإقليم.
2- الشرعية السياسية: يرى ماكس فيبر أن الشرعية السياسية ترتبط الأسانيد
الداعمة للحق في ممارسة السلطة، وضرورة خضوع المجتمع لهذه السلطة، بالإضافة
لاحتكار شرعية ممارسة القوة. ووفقاً له، فإن هناك ثلاثة أنماط للشرعية السياسية
يتمثل أولها في الشرعية التقليدية القائمة على العادات والتقاليد، والتاريخ، والحق
الإلهي المقدس في الحكم الذي يستند إلى الدعائم الدينية للسلطة. وثانيها: الشرعية
الكاريزمية المستندة إلى قدرة القائد على اجتذاب تأييد الجماهير. أما النمط الثالث
والأخير فيتمثل في السلطة العقلانية القانونية القائمة على الالتزام بالقواعد القانونية .[1]
3- العقد الاجتماعي: تعد الدولة كياناً تعاقدياً نشأ لتحقيق وظائف محددة
لمصلحة المجتمع. وتشير سردية العقد الاجتماعي إلى أن الأفراد يقبلون صراحة أو
ضمناً، بالتخلي عن بعض حرياتهم والخضوع لسلطة الدولة، مقابل حماية حقوقهم، وذلك
بسبب الاضطرابات، وحالة عدم النظام، التي سادت حالة الطبيعة السابقة على نشأة
الدولة.
4- الاعتراف الدولي: تشترك السرديات المختلفة حول الدولة في تأكيد أهمية
إقرار المجتمع الدولي بوجود الدولة، وسلطاتها، وسيادتها على الإقليم الذي يخضع
لسيطرتها، وهو ما يعد من الأركان المنشئة والمؤسسة للدول. ولقد تحولت عضوية
المنظمات الدولية، خاصة الأمم المتحدة، إلى أحد الأسانيد الدالة على الاعتراف
الدولي بكيان الدولة، وسيادتها في الإقليم الخاضع لسيطرتها[2].
يرى تشارلز تيللي أن للدولة سبع وظائف رئيسية، وهي: بناء
الأمة، وشن الحرب، والحماية، والتحكيم، واستخراج الموارد، وتوزيعها، والإنتاج. وفي
هذا الإطار، تتعدد أنماط سرديات الدولة بناء على حدود الاختصاصات والوظائف التي
يفترض أن تؤديها الدول، بحيث تتمثل هذه السرديات فيما يلي:
1- دولة الحماية (Watchman State): تقوم الدولة وفقاً لهذا النموذج بالحد الأدنى من
الوظائف (Minimal
State)، إذ يقتصر
دورها على فرض القانون والنظام داخل المجتمع، والدفاع عن بقائها، والسلامة
الإقليمية في مواجهة التهديدات الخارجية، أي أن الوظائف الأساسية للدولة، وفقاً
لهذه الرؤية النابعة من التصورات الرأسمالية الكلاسيكية، تتمثل في الأمن والدفاع،
بينما يتولى المجتمع تنظيم مختلف الوظائف الأخرى[3].
2- الدولة التنموية (Developmental State): يرى أدريان ليفتويتش أن الدولة التنموية تسعى لضمان
تحقيق معدلات سريعة للنمو الاقتصادي، عبر التدخل بقوة في التفاعلات الاقتصادية،
وتولى التخطيط للاقتصاد الكلي، والقيام بتوزيع الأدوار بين مؤسسات القطاع الخاص
وتحفيزها للعمل في القطاعات الأكثر دعماً للنمو الاقتصادي، مثل دول شرق وجنوب شرق
آسيا التي تبنت استراتيجية التصنيع من أجل التصدير (Export-Led Industrialization) لدعم النمو الاقتصادي[4] .
3- الدولة الكوربوراتية (Corporate-State): تتأسس الدول الكوربوراتية على قبول امتلاك جماعات لنفوذ
أكبر من غيرها، والتفاوتات في توزيع القوة في المجتمع، وهو ما يجعلها تقوم بتأسيس
شراكة بين الحكومات والفاعلين الأكثر نفوذاً، خلال عملية صياغة السياسات العامة،
مثل الشركات الكبرى، والاتحادات العمالية، بحيث تعبر السياسة عن توازنات القوى في المجتمع[5].
4- الدولة الحارس (Garrison State): استخدم هارولد لاسويل هذا المفهوم للإشارة إلى وجود
علاقة طردية بين تصاعد مستوى التهديدات الخارجية وتصاعد الطلب إلى الأمن والبقاء.
وعلى حد تعبيره فإن "عالم الدول الحامية يصبح فيه المتخصصون في العنف الجماعة
الأقوى في المجتمع"، حيث يترتب على التهديدات الخارجية زيادة مستوى الإنفاق
العسكري، والتوسع في حشد الموارد لمصلحة الدفاع عن الدولة، وتركيز الدولة على
استخدام القوة العسكرية في تحقيق مصالحها الخارجية[6].
5- الدولة الضاربة (Predatory State): طرح بارينغتون مور هذا المفهوم قاصداً هيمنة النخب
الاقتصادية على مؤسسات الدولة، التي تقتصر وظائفها على استخراج الموارد من
المواطنين، دون تقديم خدمات في المقابل، وهو ما يرتبط بمفهوم "دولة الجباية (Rent seeking) التي تطغى بها وظيفة جمع الإيرادات، عبر فرض الضرائب والرسوم، على
أية أمور أخرى. أما المفهوم المقابل، فهو "دولة الرعاية"، التي تركز على
تلبية احتياجات المجتمع من السلع العامة، والتدخل اقتصادياً لمصلحته[7].
تعرضت
سرديات مركزية الدولة لتحولات هيكلية، عقب الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي،
وتصدع نظم الحكم المركزية في العالم، حيث أصبحت الدولة تواجه فئتين من القوى
تؤديان للحد من فاعلية دورها بدرجات متفاوتة، أولاهما: قوى عالمية النطاق فوق
قومية Supranational قادرة على فرض القواعد على الدول، مثل مجلس الأمن الدولي الذي
توسع في الاستناد للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لتعزيز اختصاصاته في فرض
قواعد القانون الدولي، لا سيما تجاه الدول الخارجة عن نطاق التوافق الدولي. أما
القوى الأخرى، فتمثلت في الفاعلين من غير الدول. من ثم، لم يعد مفهوم السيادة
مرتبطاً باحتكار مؤسسات الدولة للسلطات في مواجهة مواطنيها، خاصة مع صعود مفهوم
"المسؤولية الجماعية للحماية" Responsibility
to Protect، حيث نص
تقرير بان كي مون، الأمين العام السابق للأمم المتحدة لعم 2009، على أنه بالرغم من
أن الدول ذات السيادة يقع على عاتقها مسؤولية حماية مواطنيها من الإبادة الجماعية،
وجرائم الحرب، والتطهير العرقي، والجرائم ضد الإنسانية، فإنه في حال كون الدولة
غير راغبة أو غير قادرة على القيام بذلك، يجب أن يحتمل المسؤولية المجتمع الدولي.
ترتبط السردية العالمية بسردية اقتصاد السوق (Market Economy Narrative)، التي تقوم على تحجيم وتقليص دور الدول
لنطاقات محدودة للغاية. ودفعها للانسحاب من المجالات الاقتصادية، مقابل هيمنة
القطاع الخاص والشركات الكبرى، وهو ما يتصل بأجندات الإصلاح الهيكلي
النيوليبرالية، التي فرضتها المؤسسات المالية العالمية على الدول النامية.
وعلى الرغم من تعدد وانتشار السرديات البديلة، إن سردية
الدولة لم تغب في أي وقت عن التفاعلات السياسية والدراسة الأكاديمية للعلوم
السياسية، وفقاً لتيدا سكوكبول في مقدمتها لكتاب "عودة الدولة" (Bringing The State Back In) الصادر عام 1985، لإن الدولة تظل كياناً
مستقلاً، وذا تأثير طاغٍ لا يمكن تجاهله على الرغم منن تعدد المنظورات، التي تركز
على المجتمع. أو تلك التي ترى الدولة شراً مطلقاً، وتسعى لتفكيكها، مثل الاتجاهات
الماركسية التي تنظر للدولة كأداة لهيمنة الطبقة الرأسمالية مالكة أدوات الإنتاج،
والتيارات الفوضوية (Anarchism) التي تتبنى رؤية شديدة العدائية والعنف تجاه الدولة،
وتعدها مصدراً لإفساد المجتمع والطبيعة الخيرة للبشرية[8]، ويمكن القول إن العودة
القوية لسرديات الدولة تجع إلى عدة دوافع، يتمثل أهمها فيما يأتي:
1) الخاسرون من العولمة: ترتب على موجات العولمة والانفتاح على العالم تغيرات
اقتصادية، وثقافية هيكلية أدت إلى اضطراب التوازنات التقليدية في المجتمع، وصعود
طائفة من الخاسرين من العولمة، بسبب حرية التجارة، وتدفقات المهاجرين عبر الحدود،
والتنافس الشديد على فرص العمل، بالإضافة إلى الإرباك التكنولوجي (Technological Disruption) الذي
يؤدي لتحولات سريعة في بنية الاقتصادات، مما يترتب عليه تراجع الطلب على بعض
الوظائف التقليدية، مقابل الإقبال على وظائف في القطاعات التكنولوجية، مثل
البرمجة، وتحليل حزم البيانات الضخمة، ومتخصصي الأمن السبيراني.
لقد دفعت التكلفة الضخمة للعولمة لصعود التيارات
القومية، التي تنادي بالارتداد للداخل، وتوازت اتجاهات للدولة مع تراجع الثقة في
السياسة والنخب التقليدية، بسبب عدم مراعاتهما لمصالح الجمهور ودعمهما للعولمة
الاقتصادية. ولقد تنبأ صموئيل هانتغتون بتراجع مصداقية النخب السياسية الداعمة
للعولمة، حينما انتقد ما وصفه رجل دافوس (Davos Man) قاصداً
النخب السياسية عالية التوجه الساعية لتجاوز الهوية الوطنية، وتفكيك الحدود
الفاصلة بين الدول، وهو ما ربطه هانتغتون بالتوجهات التي يتم التعبير عنها خلال
المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يعقد سنوياً في دافوس في سويسرا[9].
2) صعود الشعبوية السياسية: ارتبطت الشعبوية السياسية بحشد بعض التيارات والقيادات
للجماهير، في مواجهة النخب السياسية التقليدية، والأحزاب والمؤسسات السياسي
الوسطية، عبر خطاب شديد التبسيط والجاذبية يقوم على إطلاق التعهدات بتحقيق أقصى
تطلعات الجماهير، وحل أكثر المشكلات السياسية والاقتصادية تعقيداً. ويدعى هذا
الخطاب تمكين الجماهير من السيطرة على الدولة، وإنهاء حالة الاغتراب التي تهيمن
على قطاعات واسعة من الشعب بسبب احتكار السياسة من جانب النخب. تتمثل الغاية
الأساسية للشعبوية في السيطرة على الدولة، وتوظيفها في تحقيق الأجندة السياسية
القومية، التي تتبناها هذه التيارات، ومواجهة الخصوم السياسيين. انتخاب دونالد
ترامب للرئاسة الأميركية في العام 2016، نموذج على اتجاهات العودة إلى الدولة،
والتصدي للعولمة المفرطة (Hyper-Globalization) من جانب التيارات السياسية الشعبوية[10].
3) تكلفة السرديات البديلة: عادت سردية الدولة بعد التثبت يقيناً من مدى وهن وتفكك
السرديات البديلة، وعدم قابليتها للحلول محل الدولة، وتعويض انسحابها، وتوقفها عن
أداء وظائفها الأساسية.
4) تعقيدات "معضلة
الأمن": أدى صعود الفاعلين
دون الدول، والفاعلين العابرين للقومية إلى اختلالات هيكلية أصابت بُنى ووظائف
الدولة، في ظل تصاعد حدة التهديدات التي تستنزف قدرتها على أداء وظائفها الأكثر
حيوية المرتبطة بحفظ الأمن، والبقاء، والسلامة الإقليمية. لقد أدى تمدد الجماعات
الإرهابية والميليشيات المسلحة، والجيوش المناطقية والمذهبية في منطقة الشرق
الأوسط إلى تأكل احتكار الدول القومية للاستخدام الشرعي للقوة، وهيمنة مقولات
"حرب الكل ضد الكل" على التحليلات الغربية لمستقبل الإقليم.
ويشير
فرانسيس فوكوياما، في كتابه المعنون "بناء الدولة: النظام العالمي ومشكلة
الحكم والإدارة في القرن الحادي والعشرين"، على أن بناء الدولة، وليس تحجيم
دورها، بات القضية الأهم في القرن الحالي، كون الدول الفاشلة باتت تمثل تهديداً
للأمن العالمي، خاصة أن موجات التحول الديمقراطي المدفوعة بضغوط خارجية، وإخفاق
الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية في تحقيق الرفاه الاجتماعي، قادا إلى تكّون حزام،
من الدول الفاشلة والمضطربة، يمتد من شرق أوروبا إلى جنوب شرق آسيا.
في الختام، تقوم سردية "عودة للدولة"،
خلال اللحظة الراهنة، على تعزيز قدرات الدولة على أداء وظائفها الأساسية،
واستخدامها في مواجهة بعض القوى الداعمة للعولمة، مثل الشركات دولية النشاط،
والمؤسسات الدولية والإقليمية، والتصدي لاتجاهات الهجرة، وحرية التجارة، وانتقال
رؤوس الأموال، واستبعاد النخب السياسية التقليدية، التي تراجعت مصداقيتها لدى
الجماهير، ودعم التيارات والقيادات من خارج المشهد السياسي (Outsiders)، التي تتجاوز
المؤسسات الوسيطة، وتعد الناخبين بإعادة الدولة إلى الشعب،، بعدد أن اختطفتها
النخب التقليدية على مدى عقود. أما في الحيز العربي، فإن عودة الدولة تعني استعادة
الدول لقدرتها على أداء وظائفها الأساسية بكفاءة، والتصدي لتعديات التفكك الداخلي،
والانكشاف الخارجي، وتجاوز الأزمات التقليدية، التي هيمنت على "دولة ما بعد
الاستقلال والتحرر الوطني" منذ نشأتها.
[1] Quentin Skinner, “The State”, In Terrance Ball, James Farr, Russel L. Hanson (eds.(,
Political Innovation and Conceptual Change, (New York: Cambridge University
Press, 1989)،
pp 90-131.
[2] Ibid.,
pp. 90-131.
[3] Charles
Tilly, War making and state making as organized crime, in, Peter Evans,
Dietrich Rueschemeyer, Theda Skocpol (eds.), “Bringing the State Back In”, (New
York: Cambridge University Press., 1985), pp. 181-183.
[4] Adrian
Leftwich, “Bringing politics back in: Towards a model of the developmental
state”, Journal of Development Studies: Vol. 31., No 3., February 1995, pp.
400-427.
[5] Marina
Ottaway, Corporatism Goes Global, Carnegie Endowment for International Peace, 1
September, 2001. Accessible at: https://goo.gl/9b6iP5
[6] Harold
Lasswell, The Garrison State, The American Journal of Sociology: Vol. 46, No.
4, January 1941, pp 457-459.
[7] Alex
Bavister-Gould, Predatory Leaderships, Predatory Rule and Predatory States,
Concept Paper, No. 1., The Developmental Leadership Program, September 2011,
accessible at: https://goo.gl/45F8aM
[8] Theda Skocpol, Bringing the State Back
In, in Peter Evans, Dietrich Rueshemeyer, Theda Skocpol (eds.), ”Bringing the
State In’,(New York: Cambridge University Press., 1985), pp. 4-16.
[9] Samuel
P. Huntington, Dead Souls: The Denationalization of the American Elite, The
National Interest, 1 March, 2004, accessible at: https://goo.gl/b2oG7h
[10] محمد عبد الله يونس، القوى المحركة: المفاهيم العشرة الأكثر تحكما في تفاعلات
العالم 2017، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 29 كانون الأول 2017، متوافر
على الرابط التالي: https://goo.gl/xUATF2.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق