"في خلدة اشتعلت الارض بالشظايا وجثث الجنود !!"
يروي الرقيب داني نبوت من سلاح الدروع، من مستشفى هكرمل في حيفا المحتلة ، ما
حصل معهم
في خلدة بتاريخ 9 حزيران / يونيو 1982 :
في مستشفى هكرمل في مدينة حيفا، وهو أحد المستشفيات المدنية التي جرى
اخلاؤها كلياً، وتم تحويله إلى مستشفى عسكري لاستقبال جرحى الحرب وأنشئ له مهبطان
لطائرات الهليوكبتر، التقى مراسل اذاعة الجيش الإسرائيلي بالرقيب داني نبوت ( عاما) من سكان العفولة، أصيب
خلال المعارك الضارية التي دارت في منطقة خلده. وقد اجرى معه مراسل الاذاعة
المقابلة التالية التي اذاعها الراديو في الساعة الواحدة والربع من بعد ظهر يوم 11
آب 1982 تحدث الرقيب داني نبوت عن إصابته وعن معارك خلده فقال:
اعتقد أنني خدعت، الجميع خدعوني وكذبوا عل، لقد طلبوا مني أن أشارك في
هذه الحرب على أساس أن العمليات العسكرية التي سنقوم بتنفيذها سوف تكون محدودة،
وستقتصر على مناطق معينة من لبنان، أقصد جنوب لبنان فقط وهو القطاع الذي تحدثوا
عنه وقالوا أنه يمتد حتى 45 كيلومتراً، وأن أحداً لم يقل لي بأنني سأضطر للقتال
هنا عند مشارف بيروت، وحتى قائد وحدتي كان يقول لنا بأن كل من يرغب في طرح الأسئلة
فعليه أن يفعل ذلك، وأنه سيجيبنا عليها.
لقد دخلنا لبنان كي نقتل الفلسطينيين وندمرهم، لكننا قتلنا أنفسنا!
فمثلا في جنوب لبنان وحتى اليوم الثامن للقتال كان عدد القتلى في جميع المناطق قد وصل
الى 490 قتيلاً، وحوالي ثلاثة آلاف جريح، وفي اليوم الثامن لم تكن صيدا ولا حتى
مخيم عين الحلوة وجزين قد سقطت وما بين الثوم الثامن والرابع عشر أي خلال أسبوع
تقريبا فقد ما يزيد على 300 قتيل وألف جريح ! لم أكن أحصي عدد القتلى وهذه أمور لا
تعنيني طالما أنني ما أزال على قيد الحياة لكني أسمع ذلك من الأخرين يتحدثون عن
خسائرنا وعن حجم هذه الخسائر حتى أن القادة هناك كانوا يصرخون ويتذمرون أذكر بأن
العقيد الركن إيلي جيفع الذي إنسحب من صفوف الجيش احتجاجاً على استمرار الحرب في
لبنان، كان في كل يوم يطالب بوقف هذه الحرب وعودة الجيش إلى الحدود الشمالية، لقد
قاتلت مع العقيد الركن جيفع، كنت أحد جنوده في صور التي دخلناها، وقمنا بتطهير أوكار
الفدائيين فيها، العقيد جيفع كان رجلاً شجاعاً، شجاعاً جداً، وكان يتمتع بذكاء
وكفاءة عالية جداً، أنه ضابط متميز، كان يحب جنوده ويحرص على حياتهم ودمائهم،
العقيد جيفع كان يبكي لمقتل جنوده الذين كان يحبهم كثيراً، ونحن جميعاً كنا نكن له
الحب والاحترام، لماذا رفض أوامر أرئيل شارون بالدخول إلى بيروت الغربية؟ ولماذا
انسحب من صفوف الجيش؟ لقد رفض الدخول إلى بيروت وفضل الإنسحاب من الجيش حرصاً على
حياة جنوده الذين يحبهم ويحبونه، نحن جنود العقيد جيفع لن ننساه أبداً، لقد منعوه
من القاء كلمة فينا، ومنعوه من وداعنا، منعوه من مصافحتنا، لماذا فعلوا ذلك؟ هل
كانوا يخشون أن نتبعه؟ ليتني تبعته، ولو كان ذلك لما كنت الأن أرقد في هذا
المستشفى اللعين! أريدك أن تعلم شيئاً وهو أن جنود وضباط العقيد جيفع يحبونه وهم
أوفياء له، يا له من رجل صادق وصاحب ضمير!!
بعد أن سقطت صور بأيدينا صدرت إلينا الأوامر بالتحرك شمالاً، كانت
صيدا ما تزال محاصرة والطائرات الإسرائيلية تقصفها من الجو بشدة، كانت هناك ثلاثة
ألوية آلية ومدرعة نحاصر المدينة، تحت لم نقاتل في صيدا فقد طلب ألينا أن نتابع
تقدمنا شمالاً حتى الدامور، أقول لك أن بأن الكثير من الجنود كانوا مترددين في
متابعة التقدم والاستمرار في هذه الحرب، والعقيد جيفع كان متردداً، كنا نعرف ذلك،
وحينما تجاوزنا صيدا شمالاً أدركنا أننا خدعنا، وبأننا ضحية أكاذيب كثيرة، فلماذا
لم يتوقفوا عند صيدا؟ أو ليس هذا ما كانوا يرددنه؟ إذن لماذا طالبونا بالتوجه
شمالاً وأرسلوا الأخرين نحو الشرق؟ لقد قاموا بتوسيع هذه الحرب وهم يعلمون بأننا
تكلفنا خسائر باهظة، لست أدري لماذا لم يهتموا بحياة الجندي اليهودي وبالدماء
اليهودية التي كانت تسيل كل يوم وفي كل ليلة؟ الدامور كانت مدينة أموات كل من
يقترب من تلك المدينة كان يرحل بلا عودة، كان الرصاص هناك ينهمر علينا كالغبار
والانفجارات كانت تهزنا!!
أنني لم أشهد طوال حياتي قتالاً كذلك الذي وقع في الدامور! ولقد حمت
الله على أن بقاءنا في تلك المنطقة لم يطل، وإلا لكنا قتلنا جميعاً، وفي اليوم
الثامن عشر للحرب للحرب في لبنان وكان ذلك يوم ثلاثاء كما اعتقد، وفي حوالي الساعة
الواحدة من ظهر ذلك اليوم اصدر العقيد جيفع إلينا الأوامر بالإنسحاب والتقدم شمالا
نحو بيروت، وهنا اخذ الخوف يتسلل الى قلوبنا، لقد سادنا شعور غريب وخطير وأخذ كل
واحد منا يطالب الآخر (هلى افتراض أنه سيسقط) بأن يزور زوجته أو خطيبته، ويقول لها
يا سيدتي أن زوجك/خطيبك قاتل بضراوة وأطلق النار بكثافة، لقد قاتل حتى النهاية
وكان بطلاً، في منطقة خلدةإلأى الشمال من الدامور كانت هناك مئات الكمائن
الفلسطينية، يبدو أنهم كانوا يعدون لنا استقبالاً، وقد كان استقبالاً رهيباً، في
منطقة خلدة وقعت معارك طاحنة، لقد كانوا مجانين حقاً هؤلاء الذين كانوا يقاتلون في
تلك المنطقة جميعهم كانوا مجانين حقاً!
لقد تناسينا الأهداف التي رددوها على مسامعنا كثيراً تناسينا كل شيء،
الماضي والمستقبل، لم يكن أمامنا سوى الحاضر الذي نحن فيه، كان على كل واحد فينا
أن يقاتل لا لشيء، لا لشيء إطلاقاً وإنما لكي يبقى على قيد الحياة، نعم إذا أردت
البقاء حياً فعليك أن تقاتل وليس أمامك سبيل آخر، أنها معارك مدمرة ولن يخرج منها
إلا الأكثر شجاعة وكفاءة وخبرة، لقد كان القتال يدور من مسافات قريبة جداً، كانت
المسافات بين المقاتلين قريبة جداً، كان هناك دبابات لجيش التحرير الفلسطيني
ومعارك الدبابات كانت تجري عن بعد بضع عشرات من الأمتار كانت الدبابات تتبادل
اطلاق القذائف فيما بينها من مسافة عشرة امتار أو 15 متراً فقط.
كان الفلسطينيون في الواقع لا يجيدون حرب الدبابات، كما أن دباباتهم كانت قديمة جداً وغير متطورة بالقياس لدباباتنا، في الساعة الأولى من بدء المعركة في خلدة دمرنا للفسطينيين ما يزيد على 15 دبابة وربما أكثر من ذلك بكثير، كنت أشاهدها وهي تحترق وبعضها يتفجر ويتناثر قطعاً صغيرة، ولو استمرت معارك الدبابات هذه لكان بوسعنا القضاء بسهولة على جميع الدبابات التي كانت في حوزتهم، ولكن طرأ أمر خطير فقد انسحبت هذه الدبابات نحو الخطوط الفلسطينية الخلفية مخافة وراءها أعداداً كبيرة من الدبابات المشتعلة والمتفجرة، ولأول وهلة أردنا مطاردة تلك الدباباتوتدميرها، لقد شعرنا فجأة بالحماس يدب في قلوبنا، وكنا على استعداد لاستمرار في التقدم شمالاً نحو بيروت، هناك إحساس غريب يسيطر عليك في لحظات كهذه تصر على الإستمرار في القتال والتقدم وتدمير العدو تدميراً تاماً، كنا قد نجحنا في التقدم داخل خلدة حوالي 400 متراً ولكن فجأة حدث ما لم نكن نتوقع، لقد اكتشفنا يا سيدي،
بأن هناك عشرات الفلسطينيين من حملة ذلك السلاح القذر المضاد للآليات
(أر.بي.جي) بيننا، لا أدري من أين جاؤوا، أو أين كان يتمترسون ويختبؤن، المهم أنهم
كانوا بيننا، لقد كان الفلسطينيون من حملة الأر.بي.جي يركضون بين أرتال دباباتنا وهم يطلقون قذائفهم
المدمرة على ألياتنا ودباباتنا يا للعنة!! كان الفلسطيني يطلق قذيفة الأر.بي.جي
على الدبابة الإسرائيلية عن بعد 5 أو 7 أمتار فقط، وكان من الواضح أنهم يستطيعون
إصابة هدفهم بسهولة كبيرة، القتال الذي دار في خلدة كان انتحارياً حقاً، كنت أراهم
بوضوح تام، كانوا بيننا وأمامنا، عشرات الفلسطينيين يحملون فوق ظهورهم تلك المدافع
اللعينة أر.بي.جي والطريف في الأمر أنهم كانوا يحملون مدافع الأر.بي.جي ورشاشات
خفيفة- بحيث يطلق أحدهم القذيفة المضادة للدروع وثم يصب نيران رشاشه لإصطياد أفراد
طواقم الدروع الذين يقفزون ويتدحرجون عن الدبابات والمدرعات المشتعلة!! لقد أحسست
بأننا دخلنا منطقة أشبه ما تكون بكتلة من جهنم، ربما دمرنا لهم 20 دبابة خلال
معارك الدبابات، لكنهم وبذلك السلاح اللعين دمروا لنا خلال أقل من نصف ساعة ما
يقرب من 50 دبابة ومدرعة وآلية نصف مجنزرة، كنت لا أسمع سوى أصوات انفجارات هائلة
تهز المنطقة بأسرها وصرخات جنود يبحثون عن ملجأ أو جنود يسبحون في دمائهم، قلت
لنفسي بأن أحداً لن يخرج حياً من ذلك ا لجحيم وكان الأمر برمته يبدو لي كذلك، لن
أنسى طالما حييت معركة خلدة هذه ومنظر الجنود الذين انتشرت جثثهم فوق تلك الأرض
التي كانت تشتعل وتتطاير فوقها الشطايا الحارقة! وإذا كانت لي أية دعوات فأنني
أدعو الرب أن يعود الجنود من لبنان إلى منازلهم وعائلاتهم سالمين!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق