2019-10-13

الوكالة السيبرانية: رأس حربة الحروب العالمية السيبرانية



الوكالة السيبرانية

          رأس حربة الحروب العالمية السيبرانية



لم تعد القوات العسكرية أو المسلحة الضخمة أو الميليشيات أو المنظمات الإرهابية أحد متطلبات حروب الوكالة، بعد أن قوضت التطورات، على صعيد الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، حتمية وضرورة الوجود على الأرض للقوى المذكورة كأحد متطلبات تلك الحروب، إذ يمكن لأجهزة الكومبيوتر أن تُحدث أضراراً في البنى التحتية للدول على نحو تعجز الجيوش العسكرية عن إحداثه. وبالتالي، فمن المحتمل أن يشهد القرن الحادي والعشرون حروباً بالوكالة من قبل خوادم (Proxy Servers) لا قوات (Proxy Forces). يدلل على ذلك التقرير الصادر عن وزارة الدفاع البريطانية في عام 2010 بعنوان "الطابع المستقبلي للصراع"، والذي جادل بأن خصوم المستقبل هم: الدول والفاعلون منن غير الدول والوكلاء، وهو ما أوعز إلى عدة تغيرات رئيسية في طبيعة الحرب الحديثة، منها تصاعد أهمية الشركات العسكرية الخاصة، والاستخدام المتزايد للفضاء السيبراني كمنصة لسن الحروب بشكل غير مباشر، وغير ذلك.


لقد أثرت الثورة التكنولوجية في نظرية الوكالة، خاصة بعد أن بات الفضاء السيبراني وكيلاً عن الفضاء المادي، لينشئ بذلك حدوداً جغرافية جديدة بين مختلف الفاعلين. فقد بات الأنترنت مساحة جديدة للمعارك، وهي الساحة التي يصعب في إطارها معرفة هوية الخصوم على وجه الدقة، بما يؤجج استراتيجيات الحروب السيبرانية طويلة الأمد. فقد يسفر استخدام الشركات العسكرية والأمنية عن اندلاع حروب عسكرية بالوكالة على المدى الطويل. إلا أن حروب الوكالة السيبرانية تمتاز بالمجهولية، وذلك في ظل تعدد الآليات التي من شأنها أن تخفي هويات الأطراف المتصارعة إلى حد كبير. ففي ظل الاعتماد المتزايد على أجهزة وشبكات الكومبيوتر، تعد الحروب السيبرانية استراتيجية مثالية للوكلاء السيبرانيين بفعل صعوبات تتبع مصدر الهجمات السيبرانية، كما يسهل إمداد الوكلاء السيبرانيين بالتقنيات التكنولوجية اللازمة، مقارنة بالأسلحة التقليدية.


ماهية "الوكالة السيبرانية"

"الوكالة السيبرانية" يعد هذا المفهوم أحد أبرز المفاهيم الجديدة على صعيد نظرية الوكالة. ولقد تم الإشارة إلى مصطلح " الوكلاء السيبرانيين" في اثنتان من الوثائق البارزة التي تتصل بقواعد الفضاء السيبراني في العام 2013. فقد اتفق فريق الخبراء الحكوميين في ميدان المعلومات والاتصالات السلكية واللاسلكية في مجال الأمن الدولي (UNGGE) - والمكون من 15 دولة، أبرزها: الولايات المتحدة الأميركية، والصين، وروسيا، والمملكة المتحدة، وفرنسا والهند -  في تقرير لهم على عدم استخدام الوكلاء لارتكاب أعمال غير مشروعة دولياً. كما تكرر الإشارة إلى مصطلح "الوكلاء السيبرانيين" ثلاث مرات، بما في مقدمة التقرير للأمين العام للأمم المتحدة، إلى جانب الفقرة السادسة التي نصت على أنه لا يجوز للأفراد، أو الجماعات، أو المنظمات – بما ذلك المافيا – أن تعمل كوكلاء للدول في تصرفات ضارة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وهو ما تكررت الإشارة إليه في الفقرة رقم23 من التقرير المذكور.

وفي العام 2015، اعتمد فريق المتابعة، التابع للأمم المتحدة، على التقرير السابق، نص في الفقرة 28 (هـ) على أنه "يجب على الدول ألا تستخدم الوكلاء لارتكاب أعمال غير مشروعة دولياً باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ويجب أن تسعى لضمان عدم استخدام أراضيها من قبل فاعلين من غير الدول لارتكاب مثل تلك الأفعال". لكن لم يُعرّف التقرير "مفهوم الوكلاء بخلاف كونهم فاعلين من غير الدول تستخدمهم الدول لتحقيق أهداف عدة.

يمكن تعريف “الوكلاء السيبرانيين" بوصفهم "وسطاء يقومون أو يسهمون بشكل مباشر في الهجمات السيبرانية، بما يحدث تأثيراً يستفيد منه آخر، أو هم الخوادم الوسيطة بين المستخدمين والشبكة العالمية، أو مجموعة من المتسللين بعمليات سيبرانية نيابة عن الرعاة"، أو الفاعلون من غير الدول الذين يقومون بعمليات سيبرانية مسيئة لتحقيق أهداف سياسية نيابة عن دولة راعية. فقد توفر الدولة المستفيدة التدريب، والمعدات، والدعم اللوجيستي للوكيل السيبراني، بما يتيح له القتال بشكل غير مباشر نيابة عنها.

أطراف الفضاء السيبراني

في الفضاء السيبراني، هناك ثلاثة أطراف رئيسية، أولها الرعاة، وثانيها الوكلاء السيبرانيين. وثالثهما الفاعل المستهدف. وكل طرف من الأطراف الثلاثة قد يكون دولة أو فاعلاً من غير الدول. وبطبيعة الحال، ينصب تركيز النظرية على الرعاة فاعلاً من غير الدول على شاكلة، المرتزقة، والقراصنة، والميليشيات السيبرانية، وغيرهم. في المقابل، قد يستغل فاعل من غير الدول بعض الدول الهشة للعمل من خلالها، أو قد يوظف فاعلاً آخر على شاكلته كاستعانة القراصنة ببعضهم بعضاً لتحقيق مختلف الأهداف.

وعلى الرغم من تزايد تكلفة الوكلاء السيبرانيين، يلجأ الرعاة إلى توظيفهم للحيلولة دون تصاعد الصراع على خلفية الهجمات السيبرانية، فإذا شنت دولة ما علنياً على أحد خصومها، عل سبيل المثال، فقد تتعرض للانتقام إما في الفضاء السيبراني، أو في مجالات تقليدية أخرى. فمن شأن توظيف الوكلاء السيبرانيين أن يحول دون تورط الرعاة في عمليات ذات تكلفة سياسية أو مادية مرتفعة من ناحية، فضلاً عن امتلاك بعض الوكلاء السيبرانيين لعدد من الأدوات، والمهارات والإمكانات التي قد تفتقر إليها الدول أو تتزايد تكلفة تطويرها محلياً من ناحية أخرى. كما قد يهدف الرعاة إلى تجنب الكشف عن قدراتهم، أو الحفاظ على الغموض الاستراتيجي مع التطورات التكنولوجية اللاحقة، أو استغلال الفضاء السيبراني لجمع مختلف المعلومات الاستخباراتية عن الأهداف الحكومية، والعسكرية، والصناعية، والاقتصادية دون اكتشاف طبيعة أنشطة الرعاة الحقيقية داخل الفضاء السيبراني.

ويعد فيروس "ستكسنت" – الذي طورته وكالة الأمن القومي الأميركية بالتعاون مع الوحدة 8200 التابعة للجيش الإسرائيلي، أحد أبرز الأمثلة على توظيف الوكلاء السيبرانيين. وهذا الفيروس حال دون تورط إسرائيل في عمل عسكري مباشر ضد إيران. وسمح الفيروس بوضع الطموحات الإقليمية لإيران تحت المراقبة. وهذا دليل على كيفية الاستعانة بوكيل سيبراني في صورة "فيروس" بهدف تقويض الخصم. وكذلك روسيا استخدمت الوكالة السيبرانية بموازاة هجماتها السيبرانية ضد استونيا وأوكرانيا حيث كانت الكلفة قليلة ولكنها أثبتت فاعليتها في السياسة الخارجية الروسية. علماً أن بعض الدول ترد أيضا بنفس الأسلوب، فإيران استخدمت فيروس "شمعون (Shamoon Virus) الوكيل الإيراني الذي اتخذ صورة السلاح السيبراني، بهدف إعاقة شبكات شركات الطاقة في عدد من الدول الخليجية، وتضررت نتيجة لذلك شركة أرامكو السعودية، وأكثر من 30 ألف كومبيوتر، بعد أن تم تعطيل الشبكة بواسطة الفيروس. وعلى الرغم من التفاوت بين فيروسي "شمعون" الإيراني و"ستكسنت" الأميركي-الإسرائيلي، فإن الفيروس الإيراني أوضح قدرات إيران السيبرانية على توليد تأثيرات دائمة، مقارنة بما هو متوقع.

تصنيف "الوكلاء السيبرانيين"

تم تصنيف "الوكلاء السيبرانيين" تبعاُ لمعيارين رئيسيين، هما:
1- طبيعة الوكلاء (سواء كانوا أفراد أو جماعات).
2- نوعية الأهداف التي يسعون لتحقيقها (سواء كانت سياسية أو اقتصادية).
ووفقاُ لإيريكا بورغارد وشون لونرغران، يشمل "الوكلاء السيبرانيين" مجموعة واسعة نسبياً من الفاعلين تضم المتسللين الوطنيين والمنظمات الإجرامية، والإرهابيين السيبرانيين، وغيرهم حيث يختلف الوكلاء السيبرانيون تبعاً لمعيارين أساسيين هما، مدى ومستوى التنظيم، والأهداف المرجوة.

في حين صنّف تيم مورير "الوكلاء السيبرانيين" إلى عدة فئات، وهي:

1- الفئة الأولى: وتضم بعض المؤسسات الوطنية التي يتم الاعتماد عليها كلياً من قبل الدول، مثل: أجهزة الدولة، أو مؤسسات الدولة الحكومية، وذلك على شاكلة الوحدة السيبرانية التابعة لرابطة الدفاع الآستونية.


2- الفئة الثانية: وتضم فاعلين من غير الدول، لكن تحت إشراف أو سيطرة الدولة، مما يعني أن عملياتهم تخضع للدول.

3- الفئة الثالثة: تضم فاعلين من غير الدول لا يخضعون لسيطرة الدولة الشاملة. بمعنى أن الدولة لا تسيطر عليهم بشكل مباشر، أو على عملياتهم، لكنها تمارس شكلاً من أشكال السلطة العامة، من خلال المشاركة في التخطيط أو الإشراف، أو التنظيم، أو التنسيق، بل وحتى التوقف.

4- الفئة الرابعة: تشمل رعاية الدولة الإيجابية لأحد الفاعلين من غير الدول، دون أن يتلقى الأخير دعماً محدداً، لكنه عام. فعلى سبيل المثال، وصف المرشد الإيراني "آية الله الخامنئي" مجموعة منن طلاب الجامعات بعملاء الحرب السيبرانية.

وعلى النقيض من ذلك النوع من الرعاية، تشير الرعاية السلبية إلى تقاعس الدول عن اتخاذ إجراءات معينة كان تقرر عدم التدخل في نشاط الوكلاء السيبرانيين على الرغم من إدراكها لطبيعة العملية التي سيقومون بها، ورغم قدرتها على إيقافها مباشرة، أو – على الأقل – تحذير الضحية. وعقب وقوع الهجمات السيبرانية قد تعتمد الدول نشاط الوكلاء السيبرانيين. بل وقد تتخذ إجراءات لدعمهم إلى حد الدفاع عنهم، أو قد تصدق لفظياً على نشاطاتهم دون اتخاذ أي إجراءات إضافية لدعمهم، وقد تقرر عدم معاقبتهم، بل والتغاضي عن تصرفاتهم، وقد تعاقبهم الدول على الرغم من عدم وجود الأنظمة الرادعة للحيلولة دون حدوث الهجوم ابتداءً، ومن ثم، تعتمد الرعاية السلبية، وتقييم مسؤولية الدولة عن أنشطة الوكلاء السيبرانيين على النيات، والسياق السياسي الأوسع، ومدى استفادة الدولة من نشاط الفاعلين من غير الدول. وقد يكون ما حصل في لبنان في قضية خليل الصحناوي، شيئاً من هذه الرعاية السلبية.

سمات "الوكلاء السيبرانيين"

كذلك تتعدد سمات "الوكلاء السيبرانيين" وخصائصهم، ويمكن إجمال هذه السمات على الشكل التالي:

1- الهيئات الحكومية كوكلاء سيبرانيين: يمكن للدول شن هجمات سيبرانية هجومية، عبر وكالاتها الحكومية المتخصصة في الاتصالات والاستخبارات، مثلا، الولايات المتحدة الأميركية التي تقوم بعمليات سيبرانية هجومية عبر القيادة السيبرانية ووكالة الأمن القومي. وفي المملكة المتحدة يشارك مركز الاتصالات الحكومية، وخدمة الأمن في العمليات السيبرانية. وفي كندا، تدير مؤسسة أمن الاتصالات تلك العمليات السيبرانية الاستراتيجية، بالتعاون مع الولايات المتحدة ودول حليفة أخرى. على غرار ما يحصل من خلال الـ “7 Eyes" أي الدول السبعة التي تدير شبكة التنصت والتجسس الإلكتروني على دول العالم كافة.
 
 2- توظيف الوكلاء السيبرانيين، بالتوازي مع الأدوات العسكرية، وهو ما تجلى في الحرب الروسية – الجورجية عام 2008، حيث تم التخطيط لعمليات لا تستطيع الأسلحة التقليدية القيام بها، كتعطيل شبكة كهرباء، بدلاً عن تفجيرها (كما فعلت روسيا في أوكرانيا عام 2015)، ويمكن للدول أن تعمل في الفضاء السيبراني بشكل مباشر وغير مباشر عن طريق الوكلاء، مما يشجع أو يوجه سلوكك المتسللين، أو مجرمي الأنترنت.

3- تزايد توظيف "الوكلاء السيبرانيين": لقد ارتفعت نسبة استخدام الوكلاء، منن قبل الدول ضد مختلف الأهداف، خاصة أن ذلك يحول دون تورط الدول المُحرضة، وسهولة التنصل من المسؤولية عن الهجمات السيبرانية، وصعوبة إسناد الاتهام بالهجمات إلى مرتكبيها، خاصة أن ذلك ينطوي على مشاركة معلومات استخباراتية. مثال ذلك وجود برامج قرصنة من تطوير "وكالة الأمن القومي" الأميركية بحوزة المُقرصن اللبناني خليل صحناوي. لذلك كان العقد الماضي عقد العمليات السيبرانية الهجومية التي أصبحت أداة أساسية لأغراض التجسس والإكراه.


وفي الختام، أو زبدة الحكي، أنه سنشهد تزايد في أنماط الوكالة السيبرانية لتنفيذ عمليات تخريبية مستقبلاً، خاصة في ظل تقلص تكلفة استخدام "الوكلاء السيبرانيين"، مقارنة بالاعتماد على القوة العسكرية المباشرة، مع إمكانية الاعتماد على الشبكات السوداء لامتلاك أدوات الهجوم، واستغلال البرامج المتطورة، دون الحاجة إلى الاستثمار في تطويرها أو تحديثها، ودون إسناد الهجوم السيبراني لمرتكبيه. كما قد تتزايد احتمالات الحروب السيبرانية، في توجه الدول لتطوير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كأدوات للحرب، والمخابرات والسياسة، ولعل إسرائيل هي الأسرع نحو اعتماد هذه الأدوات الفاعلة مع حليفتها الولايات المتحدة، خاصة في ظل قيام "الموساد" ببناء مقر ضخم في صحراء النقب قادر على استيعاب 25 ألف عنصر للتحكم والقيادة والسيطرة في مجال الحرب السيبرانية. ويبقى الأسوأ بأن العالم العربي بشبابه وشيّابه ينظر إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كأداة ترفيه وتسلية أثناء تعاطي النارجيلة بالمعسل في ظل مقاطعة التنباك العجمي وخاصة الأصفهاني الفاخر.





ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

  حصــــــــــــار المفـــكــــريــــــن الاستراتيجية والاستراتيجية المضادة المطلوب الثبات بصلابة أمام" حصار الداخل والخارج: إن التص...