ضيف الإمام كان ضيفناً يوماً في المزرعة
سيدي الإمام في ذكرى تغييبك، تشتعل ذاكرتي، ويحترق قلبي
على أمام غاب عن لحظات العيون، لكنه ما زال ملتهباً في الوجدان، مُشعا في العقل،
ينير دربي المُوغل في وحشة الأيام.
تعود ذاكرتي إلى يوماُ من يومياتي، يوميات بدء الوعي،
أعوذ إلى ذاك اليوم، في صيف 1974، يوم جاء الأستاذ المحامي غ. ج شقيق الشاعر الكبير ن.ج، جاء الأستاذ
المحامي غ، وكان محامي الوالدة، ناقلاً تمنياً من شقيقه الشاعر، الصديق المقرب جدا
من الرئيس حافظ الأسد، وكذلك من الإمام السيد موسى الصدر، جاء الأستاذ غ. طالباً
استضافة ضيفاً عراقياً في ملاذ آمن لحين تأمين مغادرته إلى أوروبا، مع عرض من
الإمام بدفع مصاريف الاستضافة كافة أضف إلى أي مبلغ قد تطلبه الوالدة. وسمعت الأستاذ
المحامي غ يقول: ست مريم أن شقيقي اقترح منزلك، كونك تعيشين أنت وابنك وحدكما، ولا
يمكن الشك بوجود الضيف عندك"، كانت ثقتهم بوالدتي تعود إلى كونها سبق لها وأن
قدمت خدمات ومساهمات في أمور عديدة، سواء في أزمة 1958، أو فيما بعد خدمة للبنان
أو للقضايا العادلة (لن أستفيض في الخوض بذلك). كان جواب والدتي السريع: "ضيف
الإمام ضيفنا، وأمر الأمام مُطاع، ولكن لن أقبل قرشاً واحداً. وواجبي أن أقوم بحسن
الضيافة اللائقة بالإمام وضيفه، وأهلا وسهلاً. وسأقوم فوراً بتجهيز غرفة نوم نسيب
لتكون غرفة للضيف". نهض الأستاذ غ وهو يقول: "كم أنت عظيمة يا ست مريم،
رغم كل ما تعانين ستبقين السيدة الطيبة والكريمة والخدومة".
غادر الأستاذ المحامي،
وجاءت والدتي، وهي تقول لي: نسيب حبيبي، أعتذر سامحني ستغادر غرفتك مؤقتاً، فهناك
ضيف لدينا. فغضبت وقلت لها: ومن هو هذا الإمام الذي يريد إخراجي من غرفتي؟ وما
معنى كلمة "إمام"؟ في ذلك الوقت لم أكن أعرف شيئاً كوني كنت أتلقى
تعليمي في مدرسة راهبات العائلة المقدسة المارونيات، ولم أكن أفقه اللغة العربية
بشكل سليم، كون دراستي كلها باللغة الفرنسية. زوبعة غضبي تلقفتها والدتي بلهجة
حازمة: "أن ما يطلبه "الإمام" هو أمر مُطاع، ويجب أن تعرف أن
مستقبلك مرتبط به. فهو من يبني لك مستقبلاً". لم أفهم شيئاً يومذاك. وكالعادة
ممنوع الجدل عندما تتكلم "الست ماما" بشكل حازم.
سكت على مضض، وفي داخلي الكثير من الأسئلة، وأبرزها من
هو هذا الشخص المُسمى "الإمام"؟ لماذا أوامره واجبة الطاعة؟ لم أتعود
على والدتي أن تتقبل وجود غريب في بيتنا!!! ومضى الوقت وحان موعد العشاء، وكان
موعدا محدداً وثابتاً عند السابعة والنصف، كون موعد نومي هو الثامنة. كانت الحياة
مع والدتي تسير وفق نظام وقواعد ثابتة، ولا تخرق إلا بحالات استثنائية نادرة الحصول.
رجوتها أن أسهر قليلاً لأرى هذا "الإمام" المُطاع. ضحكت وقالت:
"بالتأكيد لن يأتي الإمام يا نسيب". وأضافت: " اذهب إلى غرفتك،
وأرتدي ثياب النوم، وأذهب للنوم في غرفتي". لم يكن هناك من خيار، فقد أصدرت
تعليماتها، وليس أمامي سوى التنفيذ. ذهبت إلى غرفتي مودعاً. ارتديت ثياب النوم،
ونظرت إلى سريري، فرأيت أن والدتي قامت بتغيير بياضاته. ونظرت إلى المنضدة قربه،
"لقد اختفت قصصي الفرنسية"، صرخت: "ست ماما، أين قصصي
الفرنسية؟" قالت والدتي: "أنها قرب سريري، لا تقلق".
منطقة المزرعة - شارع الأوزاعي - النويري |
دخلت ثقيل الخطى إلى غرفة نوم والدتي، وارتميت في سريرها
متبرماً من هجرتي لسريري من ضيف مجهول ل “إمام"!!؟؟ دخلت والدتي كعادتها رغم
اختلاف المكان، وقبلتني قبلة ما قبل النوم، وأطفئت الضوء، ولم يتبق إلا ضوءاً
خافتاً يشع من زاوية الغرفة. خرجت وأغلقت الباب خلفها، وهذا ليس من عادتها عندما
أنام في غرفة نومي الخاصة. قلت لنفسي "لا بد أن هذا المدعو
"الإمام" وضيفه سيأتيان الليلة، لماذا كذبت؟ لم أتعود أن تكذب. وتدافعت الأسئلة
في رأسي ودارت الأفكار في عقلي الصغير، دون أن أصل إلى جواب. وفجأة سمعت جرس
البيت، كانتأ قرعة خفيفة جدا بالكاد سمعتها، نظرت إلى منبه إلى جانب السرير، كانت
الساعة الثانية بعد منتصف الليل. صدمت كيف مضى الوقت؟ علماً إني لم أكن معتاداً
على السهر الطويل. وبسرعة نهضت بهدوء، وتقدمت نحو باب الغرفة. سمعت والدتي تقول بصوت
خافت: "أهلا وسهلاً، أستاذ غ. وأهلاً بالضيف، نسيب نائم لا تقلق. بهدوء نظرت
من ثقب المفتاح، ورأيت الأستاذ غ. ووراءه شخص أسمر البشرة، انتظرت متوقعاً دخول
الثالث، لكن لم يدخل أحد. كنت أعتقد أن الثالث قد يكون الإمام، لكنهم شخصين، إذاً
هذا هو ضيف "الإمام". إذا لم تكذب "ست ماما". دخلوا جميعاً
إلى صالة المنزل، لم أعد أسمع صوتاً. وبعد قليل سمعت صوت إغلاق باب البيت، وسمعت
والدتي تقول: سأعد لك كوباً من الشاي، تكرم. وبسرعة اندسست في السرير، خوفاً أن
تعرف "ست ماما" إني لم أنم. وسرعان ما غالبني النعاس وغفوت.
في الصباح، كان الموعد المحدد لاستيقاظي في الصيف،
الساعة الثامنة، ولم أشعر إلا وأن والدتي توقظني، وهي تنهرني لماذا التكاسل
والاستغراق بالنوم؟ لم تكن تعرف أني غفوت عند الثانية بعد منتصف الليل، ولا يمكنني
أن أقول لها إني لم أصدقها بعدم مجيء الإمام، فذلك قد يؤدي إلى عقاب شديد. فكنت
حجتي المُقنعة أن تغيّر السرير ورائحتها جعلاني استمتع بالنوم. ضحكت وقبلتني
وقالت: "هيا إلى الحمام أغسل وجهك، ونظف أسنانك، فالضيف ينتظر على طاولة
الطعام، بسرعة، وسامحني على ما يحصل نسيب".
قمت بما طلبت، وتوجهت إلى غرفة الطعام سريعاً، كنت أريد
أن أرى الضيف بوضوح، وأن أحاول أن أعرف أكثر عن المدعو "الإمام". بادرت
الضيف بكلمة "بونجور". رد وقال: "السلام عليكم ورحمة الله".
يومها لم أفهم ما قال. والسبب إنني لم أكن أفقه اللغة العربية كثيراً، فكنت لا
أتكلمها ولا أفهمها إلا قليلاً، كما أن لهجة الضيف كانت غريبة على شخص مثلي. تمتم
الضيف بعبارات لم أفهمها يومها، فقالت والدتي: الله يحفظك، مشكور.
قضى الضيف في
بيتنا ما يُقارب العشرة أيام، وكما جاء فجأة ليلاً غادر فجأة ليلاً أيضاً.
قضيت معه عشرة أيام، كان الحوار بيننا يشبه حوار طرشان
هو يتكلم اللغة العربية بلهجة عراقية، وأنا أتكلم باللغة الفرنسية وبلغة عربية
ركيكة جدا، أضف إلى أني كنت أعاني من لثغة في معظم الحروف، كنت أتكلم اللغة
الفرنسية بطلاقة ولكن باللغة العربية كنت مضحكاً جداً. اليوم وبعد تلك السنوات
عندما أتذكر الواقعة أتذكر بعض كلماته كانت عجيبة يومها، أما اليوم فهي من أجمل
العبارات لدي.
المهم، إنني منذ مغادرته، لازمني التفكير بالمدعو
"الإمام" ومع تقدم الأيام، وبدء دراستي في العام التالي في مدرسة
"قصر الصنوبر" (شارلمان) في منطقة بئر العبد، حيث بدأت دراسة مكثفة للغة
العربية إلى جانب دراستي الابتدائية، وبدأت والدتي مطالبتي بالقراءة أكثر لكتب وقصص
باللغة العربية كانت تشتريها لي، بعد أخذها الإذن من والدي، وطلبها منه تخفيف
إرسال الكتب والمجلات الفرنسية. وسرعان ما بدأت بالاطلاع على الصحف والمجلات
السياسية العربية التي كانت تواظب على شراءها يومياً وتجميعهاً، وكانت تسمح لي
بالنزول مع الناطور "أبو علي" إلى محل جارنا "أبو حسين
الحسيني" لإحضار الصحف والمجلات، ومن المفارقات أن محل جارنا "أبو حسين
الحسيني" يقع في نفس المبنى الذي سيكون مستقبلا مسكناً للرئيس نبيه بري، ومن
ثم مقراً رئيسياً من مقرات "حركة أمل" في منطقة المزرعة، التي باتت
حالياً تعرف باسم "منطقة بربور".
مع بدء اطلاعي على الصحف والمجلات
السياسية العربية بدأت الإجابات تنهل على تساؤلاتي حول "الإمام"، كما
أصبحت أعرفه من خلال شاشة التلفاز، خاصة عندما كانت إحدى جاراتنا المسيحيات تتجه
نحو الشاشة لتقبيلها عند ظهور ذاك الإمام، وهي تصرخ قائلة:" هذا هو
المسيح".
ومع تقدم الوقت عرفت
من هو "الإمام"، وخبرت كم يحبه اللبنانيون.
أروي هذه القصة اليوم. وقد سكنت "ست ماما"
الغياب، والأمام غائب عن لحظات العيون، وبات وجداني ملتهباً شوقا إليه. فكيف أنسى
شعاره " السلاح زينة الرجال" وسأروي يوماً ماذا كان يجري في محل الوالدة
في منطقة "الشياح" على طريق صيدا القديمة في "بوتيك وزنة".
الشياح - طريق صيدا القديمة (حالياً) |
منطقة "الشياح" تلك المنطقة التي لو كانت زواريبها وبعض مبانيها تروي
لروت الكثير من الذكريات داخلي في عمر المراهقة والشباب . وقد أكتب يوماً عن الانطلاقة،
واجتماعاتها عام 1980 مع كوكبة من الشباب ارتحلوا معظمهم شهداء، شباب تشاركنا
الحلم "حلم وطن" حلم "الإمام".
سيدي الإمام، عرفتك من عيون المسيح، عرفتك وغادرت عالم
دراستي عند الرهبان إلى كنف عباءة أهل الحق، فبدأت مسيرتي مع أهل الحق، وكان دربي
درب الوفاء، درب لا يعرف استكانة، علمتني أن " إسرائيل شر مطلق" وزرعت
داخلي أن " التعايش الإسلامي – المسيحي ثروة يجب التمسك بها" ويبقى إني
"سأغرف من حبر الحقيقة مهما كانت مرّة" ولن أستكين.
سيدي الإمام، ما زرعته والدتي في قلبي من محبة وطيبة
سيبقى، وما زرعته أنت في عقلي ووجداني من نور الحق، زرعك أثمر في أبنائي حباً
ووفاءاً وأشتياقاً...
سيدي الإمام، سأبقى على الشرف العظيم شرف المؤمنين،
ولولا استمر كيد المنافقين في هذا الزمن العصيب، ولن أعيش حسرة الحنين وحشرجة
الأنين، وأنا أعلم أن اليقين بالله سيكون عوني دائماً رغم ظلم الكثيرين، وسأبقى
معتصماً بحبل الله حتى يتحقق "الوطن الحلم" دون كلل أو ملل.
سلام عليك، سيبقى فكرك نبضي النابض و سبيلي
إلى وطنك وطني المرتجى...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق