لماذا يتصرف الرئيس
الأميركي دونالد ترامب هكذا؟
السؤال الجوهري لتقصي حقيقة تفكير وما يرمي
اليه دونالد ترامب يبقى مطروحا دون اجابات مقنعة او وافية للحظة.
جوهر المسألة ما اذا كان يتعين تفسير تصرفات وقرارات ترامب كردات فعل
ارضاء لغريزة معينة وطمأنة لجمهور معظمه متواضع التفكير والتحصيل العلمي؛ ام هي
جزء في سياق منظومة متكاملة من الاجراءات، صادمة في وقعها وتوقيتها المتقارب
واقصائها لقوى كانت بالأمس من اقرب الدوائر في خانة الحلفاء. ام بخلاف ذلك مما
يعطي الانطباع انها تمتهن التخبط والعفوية واساءة التوقيت، غير آبه بتداعياتها
المتعددة، بل وملامستها لخانة تحدي نصوص الدستور الخاصة بصون الحريات العامة.
في سياق الاجابة وتوخيا للدقة والموضوعية والعلمية في آن، نجد لزاما
استحضار ليس التشخيص النفسي لما يحرك ترامب "ونفوره التاريخي" من التزام
الصدق، بل لما يمثله من قوى ومصالح معينة داخل المؤسسة الاميركية تضررت مصالحها
بسبب سياسات العولمة وتبعاتها، وهي التي تصب جام غضبها على "القيود
الحكومية" وتدخل المؤسسات الفيدرالية / الاتحادية في مجريات اعمالها مما "يقوض
مصالحها الاقتصادية وحرية تحركاتها."
في الشق الاول، جاءت تصريحات احد اكبر اخصائيي علم النفس والاستاذ في
جامعة جونز هوبكنز، جون غارتنر، 30 يناير الماضي، شديدة الوضوح قائلا ان
"دونالد ترامب مريض عقليا .. ولديه نرجسية خطيرة، مزاجيته تحيله الى غير قادر
على تبؤ مهام الرئيس بشكل صحيح." وشاطره طبيب نفساني مشهور ايضا، كاري بارون،
مؤكدا على تشخيص ترامب بمرض النرجسي الخطير مما يحيل المصاب به الى "فرد
مخيف، وخطير، ولا يرحم .. يفتقر الى الشعور بالذنب او الندم."
ما يهمنا تحديدا علاقاته بالمصالح التجارية
والمصرفية التي ينبغي استحضارها بقوة للاضاءة على ابعاد "قراراته"
وتحركاته الصادمة للبعض. بايجاز شديد، يمثل ترامب مدرسة نقدية داخل المؤسسة
العالمية تعتبر ان اقطاب "الرأسمالية الصناعية" قد تخلت عن الاسواق
الداخلية طمعا في مزيد من الارباح خارجها "ونقلت محور استثماراتها
وابتكاراتها وارباحها" خارج حدود الولايات المتحدة.
وعبر عنه بوضوح شديد في خطابه لاداء القسم باتهامه "النخب
الاقتصادية لتخليها عن الحزام الحديدي (الولايات الوسطى المتشاطئة على البحيرات
العظمى) والانتقال لوول ستريت." جذر اتهاماته له ما يبرره في الداخل
الاميركي، اذ تحكمت الولايات المتحدة بنحو 50% من مجمل التبادلات التجارية العالمي
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتقلصت حصتها لما دون نسبة 20% بعد تسيُّد
العولمة "وتفكيك "قاعدة الانتاج الصناعي."
منذ ترسخ نمط العولمة و"امركة" العالم، نمى شرخ داخل نخب
المؤسسة الاقتصادية بين شقيها المصرفي والاستثماري، من جهة، وبين الشق الصناعي
والانتاجي "المعولم" من جهة اخرى؛ على خلفية امتيازات ضرائبية كبيرة
لصالح الاخيرة. ترامب يحبذ "انتقال" نمط الاقتصاد الاميركي من النموذج
المصرفي والمستند الى استيراد البضائع باتجاه اقتصاد يستند الى التصنيع والتصدير.
ترامب ينتمي للنمط الاول المتجذر في تيار "القومية الشعبوية
الاميركية المتطرفة،" وحافظ على تمثيل مجموعة "وول ستريت" وامساكها
بأهم الوزارات السيادية، وضخ نفوذ بارز لرموز "التوسع العسكري" في
ادارته.
اوجز استاذ العلوم السياسية في جامعة برينستون، يان- فيرنر ميوللر،
بروز ترامب والشريحة التي يمثلها من المتطرفين بأن "القيادة اللامعة ليست هي
المعيار" في عرف المحافظين والقوميين الجدد "بل القدرة على استشراف
الارادة الشعبية وفهم تطلعاتها." (كتابه "ما الشعبوية،" 2016).
وشاطره آخرون من نخب العلوم السياسية بالقول ان ترامب ورهطه جسدا "المحسوبية
الشاملة،" التي تسخر دعائم الدولة المركزية لخدمة اصدقائهم ومعارفهم المقربين.
التشكيل الوزاري لترامب، وهو موضوع يستحق التحليل المفصل بحد ذاته،
وميله لكبريات شركات الاستثمار والطاقة قد ولد معارضة "صامتة" بين
الشركات المنافسة الاخرى والتي تعول كثيرا على عقودها التجارية الواسعة مع مختلف
اجهزة الدولة، وتتلقى الاهانة تلو الاخرى من ترامب (ايه تي آند تي – للاتصالات،
قطاع انتاج السيارات ..الخ) حفاظا على استمرارية مصالحها الضخمة مع الجهاز الحكومي
برمته.
بعض الاخصائيين في الشأن السياسي والاستثمارات الاقتصادية اعرب عن
قلقه من نفوذ وسطوة شريحة الاثرياء "ممثلي الشركات الكبرى من اشد الفرق تطرفا
.. في التاريخ الاميركي بأكمله." بل ذهب ابعد من ذلك بتحذير العامة من ان
الولايات المتحدة "تواجه استيلاء كبرى الشركات على مفاصل الحكومة الاميركية."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق