2022-02-26

أباطرة وقياصرة

 أباطرة وقياصرة

وحلم الأمبراطورية الروسية


ماهية النزعة السلافية

    تتوافق النزعة القومية مع حركة سياسية ترمي إلى تجميع أمم تملك نقاطاً مشتركة تحت السلطة نفسها استناداً إلى عدد من العوامل (الدين، اللغة، الإيديولوجيا، الخ). فنحن نميز مثلا النزعة الجرمانية القومية التي تقوم على الأصل الجرماني كأداة موحِّدة، والنزعة الإسلامية القومية التي تستند إلى الدين الإسلامي بموازاة النزعة العربية القومية التي تستند على العَلمانية والهوية العربية (اللغة والحضارة العربيتين)، والنزعة السلافية القومية التي لا تستند إلى الهوية الإثنية "السلافية" فحسب، بل إلى الدين الأرثوذكسي والإرث التاريخي للفتوحات الروسية (السلافية)، والنزعة الاميركية القومية التي تهدف إلى الشعور بالتكافل بين أمم نشأت في القارة الأميركية ذاتها واجتمعت تحت راية الولايات المتحدة الإيديولوجية، أو النزعة الافريقية والنزعة الآسيوية أيضاً، وهما على غرار النزعة الأميركية حركتان تقومان على شعور الانتماء المشترك للقارة نفسها أيضاً، وبالتالي تقومان تماماً على فكرة الترابط بين عدة شعوب خرجت من تاريخٍ، بل من حضارةٍ مشتركة.

    وباستثناء النزعة الأفريقية التي جاءت في وقت أكثر تأخراً بسبب الاستعمار الأوروبي، نمت كل هذه النزعات القومية في القرن التاسع عشر، واستُخدِمَت كسلك ناقل في محاولات تأكيد الهوية، في النزعة القومية السائدة.

    سنحاول الاضاءة على النزعة السلافية القومية في محاولة فهم الحدث الأوكراني، بعيداً عن قرقعة السلاح، أصوات الانفجارات.


    بداية، ترمي النزعة السلافية إلى توحيد العالم السلافي باسم تاريخٍ وهويةٍ مشتَرَكين، ومع ذلك، فإن العالم السلافي بعيدٌ من أن يكون موحداً، كما تشهد على ذلك اللغات المتعددة المستخدمة فيه، والديانات المسيحية المختلفة سواء أكانت كاثوليكية أم بابوية أم بروتستانتية أم أرثوذكسية خاضعة لتأثير اليونان أو روسيا، بالإضافة إلى العادات المختلفة والتقاليد وطرق العيش وتجارب السيطرة أو الإذعان التي شهدها عبر العصور. ومن جهة أخرى، فإن السلافيين ليسوا موزعين على مجموعة جغرافية واحدة، بل هم على العكس منذ لك منفصولون بكيانات اثنية غير سلافية مثل الهنغاريين والأتراك والألمان... ومع ذلك، فإن هذه الحالة لم تمنع روسيا من اللجوء إلى ذريعة النزعة السلافية لتبرير توسعها في القرن التاسع عشر، في عصر بدت فيه القومية بمثابة التفسير المنطقي والطبيعي لكل فتح إقليمي.




    ويظهر للباحث عبر دراسة تاريخ روسيا، أن ما وحَّد هذه الإمبراطورية لم يكن الهوية "السلافية" لشعبها، بل الطموح الإمبريالي المشترك، وشعور الانتماء إلى "روسيا الكبرى" التي يسود الدين الارثوذكسي فيها. ومن هنا جاءت نزعةٌ قوميٌ نُعِتَت في الغالب بأنها "سلافية جامعة"، واستندت إليها الأنظمة المتعاقبة بدرجات متفاوتة (الملكية، الحزب الشيوعي السوفيتي، ثم الرئيس بوتين اليوم). من جهة أخرى، يعرض "صموئيل هونتغتون" في كتابه "صدام الحضارات" مجالاً ثقافياً "ارثوذكسياً" (وليس "سلافياً") يشمل روسيا الحالية وبلدان التقاليد الأرثوذكسية مثل أوكرانيا وبيلوروسيا والبلقان واليونان...

    وتعاظم الطموح الأمبراطوري الروسي في القرن التاسع عشر بسبب المنافسة مع القوى الأوروبية، ولا سيما مع النمساويين في البلقان أو مع البريطانيين في آسيا الوسطى. وبالطريقة نفسها، فإن غُرْمَ الاحتلال المغولي، ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر، الذي هزمه الروس عندما اتحدوا حول الارثوذكسية، أبرز فكرة التهديد "الأجنبي" لدرجة كبيرة، أي تهديد دين مختلف بصورة رئيسة. وهذا ما يفسر بعض الأحداث الأخيرة مثل دعم روسيا (السري بمقتضى الدبلوماسية الأممية) إلى صربيا (السلافية/ الأرثوذكسية) أثناء النزاعات اليوغوسلافية (البلقانية) في سنوات التسعينيات، أو التصميم على النصر على دعاة الاستقلال الشيشانيين من الديانة الاسلامية أيضا، والذين تهدد قضيتهم السيطرة الروسية على القسم الصغير من القوقاز، الباقي لها منذ تفتت الاتحاد السوفياتي عام 1991.

من إمارة "كييف" إلى الامبراطورية الروسية

    ولدت الامبراطورية الروسية من إمارة "كييف" التي نشأت في القرن التاسع، وكانت هذه الإمارة التي تتطابق مع أول دولة روسية مسكونة بالسلافيين الذين ظهروا في أوروبا الشرقية منذ عدة قرون قبل الميلاد، والذين اختلطوا بقبائل "الفاراغ" و"الفيكنغ" (من أصل اسكندينافي) التي استفادة من عدة أنهار تقع  ما بين بحر البلطيق والبحر الأسود (فولخوف، دفينا، لوفات، دنيبر، الخ) أو بحر قزوين (فولغا) كي تعمل بالتجارة وتقيم طرق الاتصال في المناطق الساحلية. كانت "كييف" جزءاً من هذه المدن، مثل مدينة "نوفوغورد" أو "سمولنسك"، التي حظيت بالأهمية بفضل الأنشطة التجارية التي قادها هؤلاء السكندينافيون.

    في نهاية القرن العاشر (في عام 988)اهتدت الإمارة إلى المسيحية تحت حكم فلاديمير الأول سفياتوسلافيتش (980-1015)؛ وبما أنها في منتصف الطريق بين بحر البلطيق والبحر المتوسط، كانت على تماس منتظم مع الإمبراطورية البيزنطية شريكتها التجارية الرئيسة، وقد تأثرت بالراهبَين "سيريل" و"ميتود"، "رسولَي السلافيين" القادمَينِ لتنصير أوروبا الشرقية قس القرن التاسع، واللذين جلبا معهما الأبجدية التي تدعى "سيريلية".

    وفي عام 1054، دمجت الإمارة جميع القبائل السلافية وأصبحت دولة مزدهرة. لكنها تفتت في القرن الثالث عشر في أعقاب منافسات على الخلافة نجم عنها إمارات أخرى، وعانت من هجمات همجية منتظمة، وقد أضعفها هذا التفتت فهزمت عام 1240 عندما واجهت هجمات التتار (المغول) لاحقاً: إذ دُمّرت مدينة "كييف"، وأصبحت تحت احتلال مملكة "الأُرطة الذهبية" التي يقودها حفيد جنكيز الأمير المغولي "باتو خان"، على غرار الإمارات الروسية الأخرى.

    وبعد ذلك بقرن ، وفي نهاية القرن الرابع عشر، أنتقل مقر الكنيسة الأرثوذكسية من كييف إلى موسكو، مما منح هذه الإمارة ميزة حقيقية. وفي عام 1462 ، صعد "إيفان الثالث" على عرش دوقية موسكوفيا الكبرى وقد استفاد الأمير من ضعف السلطة المغولية فشرع في استعادة الأراضي الروسية بنجاح. وبعد ذلك بعشر سنوات، انتهى تماماً الاحتلال المغولي لروسيا (التي كانت تغطي مساحة مليون كيلومتر مربع، أي أكبر بلد في العالم في ذلك الوقت). أن حرب الاسترداد هذه،  التي يمكن أن تُقارن بنوع من "الحروب الصليبية"، ظلت بارزة في اللاوعي الجمعي الروسي .



    وتحت حكم "إيفان الرابع" الملقب بـ "إيفان الرهيب"، قادت روسيا فتوحتها في شرق المنطقة، فاحتلت بصورة خاصة مدينة التتار "قازان" عام 1552، وظلَّ هذا النصر مشهوراً لأنه يرمز إلى الانتقام من المحتلين المغول القدامى، ولأنه لأول مرة أيضاً يحكم الروس شعباً أجنبياً من ديانة مختلفة. وامتد الروس نحو الجنوب باتجاه بحر قزوين (الذي أخذوه من "أسترخان" عام 1556) ونحو الشرق، حيث وصل "الكازاخ" إلى المحيط الهادئ في بداية القرن السابع عشر عن طريق سيبيريا وحيث أُسست مدينة "أوخوتسك" عام 1649.



    كان "إيفان الرهيب" أو قيصر روسي، أي أنه مثل الأباطرة الرومان. وقد أراد أن يكون بديل إمبراطور بيزنطية، لأن مدينة القسطنطينية كان قد احتلها العثمانيون عام 1453، كان من المفروض أن تصبح روسيات حينذاك "روما الثالثة"، وقد أقام سلطة مطلقة استندت إلى الدين الأرثوذكسي وأسس العبودية في روسيا.

    وفي حين وسع "إيفان الرهيب" مساحة الدولة الروسية بصورة ملحوظة، فقد كبرت هذه الدولة أيضاً مع عاهل آخر هو "بطرس الأكبر (1682-1725)، الذي وجَّه فتوحاته نحو الغرب بصورة خاصة. وقام هذه الأخير بتحديث البلد متخذاً من القوى الأوروبية مثالاً، كما شجع التجارة وبنى مدينة "سان بطرسبورغ) على ضفاف بحر البلطيق عبر ضم "ليفونيا" و"إستونيا" وإنغاريا" التي أخذها من السويديين. أما  في الشرق فقد شجع استمرار الفتوحات في سيبيريا، وشرع في التجارة مع الصين.

روسيا منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى بداية القرن التاسع عشر

    تم تحديث روسيا إذاً، وأصبحت تتمتع بجيش وأسطول ومدن ساحلية، وتطورت صلاتها مع البلدان المجاورة، غير أنها لم تصبح قوة حقيقية إلا تحت حكم الإمبراطورة "كاترين الثانية" (1762-1796). إذ استأنفت الإمبرطورة فتوحاتها باتجاه أوكرانيا هذه المرة، وأبعد من ذلك جنوباً، نحو البحر الأسود والقرم التي أخذتها مت الإمبراطورية العثمانية ما بين عامي 1774-1783، واتجهت نحو بولونياً أيضاً (1772-1795) التي اختفت عن الخارطة بالكامل، مما جعل من روسيا قوةً منذ ذلك الوقت في وسط أوروبا إلى جوار بروسيا والنمسا، زد على ذلك أن هذه الإمبراطورة أرملة بطرس الثالث ألمانية الأصل، ذلك أن أبوها هو الدوق "أنهالت زيربست). وبما أنها عزمت على زيادة طاقة بلدها الكامنة، فقد فتحت بلاطها إلى المفكريين الأوروبيين (الفرنسيين "فولتير" و"ديدرو")، واستأنفت الإصلاح الإداري الذي بدأه بطرس الأكبر ووسَّعت العبودية في روسيا.

    وتحت حكم حفيدها "الإسكندر الأول"، أفضت المحاولات السابقة في القوقاز إلى ضم أراضٍ جديدة (جورجيا عام 1801)، وأقيم جسر "أوديسا" و"سيباستوبول"، وتم ضم فنلندا في الشمال عام 1809، و"بيسارابيا" في الغرب عام 1812. كان هذا  توسعاً كبيراً لروسيا في ذلك العصر، وأكثر فأكثر تعاظَمَ دورُها  القيادي كحامية للمسيحية، لا سيما في مواجهة العثمانيين المسلمين، بل في مواجهة البولونيين الكاثوليك أيضاً.

    وبفضل السياسة التي قادتها "كاترين الثانية"، أصبح " "الإسكندر الأول" عاهل دولة قوية استطاعت أن تقاوم حملة نابليون عام 1812، وظهرت من بين القوى الأوروبية التي أعادة فتح أوروبا التي كانت تحتلها فرنسا نابليون ما بين عامي 1813 و 1814، لدرجة أن "الإسكندر الأول" قد أبرم " الحلف المقدس" مع النمسا وبروسيا عام 1815.

    وسوف تكون المسألة الشرقية الشغل الشاغل الروسي الرئيسي في القرن التاسع عشر، ولم تكن المشكلة هنا في توحيد السلافيين، بل في تشكيل "سورٍ واقٍ" من عدة جهات. وإذا ما كانت الفتوحات في الجبهة الشمالية والغربية قد تكللت بالنجاح، فإن القسم الشرقي كان صعباً جداً بسبب المقاومة الشرسة التي أبدتها شعوب القوقاز:  فقد فُتحت أرمينيا وأذربيجان عام 1828، لكن داغستان وبلدان آسيا الوسطى قد قاومت ( فاحتُلت كازاخستان عام 1846، في حين لم تستسلم تركستان إلا في عام 1867) تحت حكم "الإسكندر الثاني": (1855-1881) الذي توصل إلى إضافة مناطق سيبيرية محاذية لنهرَي "آمور" و"أوسوري" أيضاً، بعد أن تخلت الصين عنها (لكن ضم هذه الأراضي التي تغطي مساحة 2.5 مليون كيلومتر مربع سيصبح موضع نزاع يما بعد بالنسبة إلى النظام الشيوعي وسوف يسبب حوادث حدودية في مطلع الستينيات من القرن العشرين).

    وبعد بضع سنوات، ستبدو أهمية سيبيريا بفضل بناء الخط الحديدي العابر لسيبيريا بين عامي 1891 و 1916، والذي يربط روسيا الأوروبية بروسيا الآسيوية .

حاول القيصر "الإسكندر الثاني" أن يطور بلده التي كانت حينذاك متأخرة جداً اقتصادياً واجتماعياً على الرغم من كونها قوة اقليمية ديموغرافية وعسكري، فألغى الرق عام 1861 (محرراً بذلك قرابة 50 مليون فلاح)، ونادى بمساواة جميع السكان أمام العدالة، وجعل الخدمة العسكرية إجبارية، لكنه اصطدم بالقوى المحافظة والمطالب الاجتماعية المتنامية في آن واحد معاً. وفضلاً عن ذلك فإن البولونيين قد انتفضوا عام 1863 مما أدى إلى توقف الاستمرار في الإصلاحات.



    كان "الإسكندر الثاني" قد بدأ حكمه عام 1855 مع فترة مأساوية من حرب القرم (1854-1855): وبينما كانت روسيا تنوي متابعة توسعها في الجنوب تحت ذريعة رمزية مفادها إنقاذ الأماكن المقدسة التي أخذها العثمانيون، قررت فرنسا وانكلترا أن تنجد الأمبراطورية العثمانية كي تحافظا على مصالحهما في الشرق عبر الحد من التوسع الروسي ( وقد هُزمت روسيا في أعقاب النصر الفرنسي – البريطاني، ولا سيما أثناء حصار "سيباستوبول").

وبما أن الإسكندر الثاني هو "قيصر جميع البلاد الروسية"، فقد اعتمدت سلطته على الجيش والكنيسة الأرثوذكسية بصورة خاصة. ولما كان يحكم شعوباً عديدةً  جداً أكثر من نصفها ليس روسياً، أصبحت سياسة "الروسَنَة" جوهرية من أجل الحفاظ على مظهر اللحمة الوطنية التي تعرَّضت للخطر بعد هزيمة 1855، وبعد المطالب القومية المتنامية في جميع أتحاء أوروبا في تلك الفترة، وبصورة خاصة على الأرض البولونية الخاضعة للروس.

    مات "الإسكندر الثاني" مقتولاً عام 1881 عشية إصلاحات جديدة.       

من الإمبراطورية الروسية إلى الأمبراطورية السوفيتية

توجب على روسيا أن تتفاهم أخيراً مع خصومها القدامى بسبب ازدياد حاجاتها المالية. ومن جهة أخرى، وافقت روسيا على التخلي عن قسم من أراضيها فباعت "آلاسكا" إلى الولايات المتحدة عام 1867. وما بين عامي 1891 و 1894، أبرم القيصر "الإسكندر الثالث" (1881 – 1894) حلفاً عسكرياً مع فرنسا. لكن هزيمة روسيا بنتيجة الحرب مع اليابان (1904-1905) قد أطلقت العنان للاحتجاجات الشعبية. وهكذا شعر الروس بالمهانة حين هزمهم الشرقيون، بينما كانوا يعيشون على فكرة تفوق "السلافيين" ومباركة الله لجميع مبادرات روسيا.

انطلقت المطالب الاجتماعية والسياسية من جديد، فسمح القيصر "نيقولا الثاني" الذي حكم من 1894 إلى 1917 بتشكيل برلمان، هو "الدوما"، لكنه لم يحظَ سوى بدور ثانوي. وبعد اثني عشر عاماُ، جاءت الثورة التي أطلقها لينين البلاشفة لتقلب القيصر (الذي سيقتل مع عائلته عام 1918) وتعيد تقسيم الإمبراطورية الروسية. وبموجب معاهدة  "بريست ليتوفسك" في آذار عام 1918، فقدت روسيا 800000 كيلومتر مربع و26 % من سكانها، ولا سيما أوكرانيا وفنلندا وبلاد البلطيق. ولم يستطع الاتحاد السوفياتي الذي نشأ عام 1922 أن يستعيد أراضيه السابقة إلا بعد هزيمة الإلمان عام 1945، فأعاد بذلك تشكيل الإمبراطورية الروسية القديمة التي كانت قبل الحرب العالمية الأولى. وعلاوة على ذلك، فإن سيطرة موسكو على أوروبا الوسطى والشرقية التي حررها الجيش الأحمر شكلت سوراً واقياً جديداً للإمبراطورية السوفيتية حتى سقوط الشيوعية، وتفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991.   

ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

  حصــــــــــــار المفـــكــــريــــــن الاستراتيجية والاستراتيجية المضادة المطلوب الثبات بصلابة أمام" حصار الداخل والخارج: إن التص...