2020-10-30

لبنان أين... لا إلى أين ؟

 الديمقراطيات المتقدمة ... واللامركزية

لبنان أين ... لا إلى أين ؟ (إطار نظري وواقعي)

  

لا شك من أن أحد العوامل الرئيسة في مفهوم الدولة هو الشرعية. فالشرعية التقليدية ترتكز على الطقوس والأعراف وعلى عامل الاستمرارية. أما الشرعية الكاريزمية فترمز إلى قوة الأفكار التي يُجسدها قائد ما. بينما تشير الشرعية القانونية العقلانية إلى القوانين والقواعد. وبغض النظر عن شكل المزيج بين هذه الأشكال الثلاثة، فإن الشرعية هي التي تسمح للدولة بأن تضطلع بوظائفها الأساسية. وبدون هذه الشرعية، يصعب على الدولة أن تقوم بوظفائها. وإذا كان إخلاص الناس للدولة ضعيفاً، فسيتجاهلون مسؤلياتهم السياسية. مثل دفع الضرائب والالتزام بالتشريعات أو الخدمة في القوات المسلحة. وفي ظل هذه الظروف، لا يبقى أمام الدولة فعلياً سوى أداة واحدة للحفاظ على النظام، هي التهديد باللجوء إلى القوة. والمفارقة إذن هي أن الدول التي تستخدم الإكراه ضد مواطنيها عادة ما تكون ذات مؤسسات ضعيفة، لأنها بغير العنف لا تكون قادرة على جعل الناس يطيعون القوانين ويقومون بواجباتهم التي تنص عليها تلك القوانين وبالإضافة إلى الأنواع المختلفة من الشرعية في دول العالم ومستوى هذه الشرعية، تختلف هذه الدول وفقاً لتوزيع السلطة، كما ترتبط الحرية الفردية بطبيعتها بلامركزية السلطة، بينما ترتبط المساواة الجماعية بطبيعتها بمركزية أكبر للسلطة.

يمكن أن تكون السلطة في الدولة مركزية أو لا مركزية في طريقتين مختلفتين. الأولى هي توزيع السلطة داخل الدولة نفسها. ففي ظل النظام الاتحادث (أو الفيدرالي)، يتم منح سلطات هامة مثل فرض الضرائب وتشريع القوانين والأمن إلى هيئات محلية (كالولايات في أميركا، والمقاطعات في كندا) التي تسيطر على جزء معين من البلاد. ويُعرف دستور البلاد تلك السلطات وبالتالي يصعب على أية حكومة أن تفرض قيوداً عليها أو تُلغيها. يُنظر هنا إلى الحكم الاتحادي على أنه يمثل المصالح المحلية ويحدّ من نمو السلطة المركزية (التي يُنظَر إليها أنها تهديد للديمقراطية)

 


في المقابل، تستثمر الدول ذات الحكم المركزي معظم سلطتها السياسية على الصعيد الوطني دون وجود دور هام للسلطة المحلية. فالحكومة المركزية مسؤولة عن معظم مجالات السياسة. أما التقسيمات الإدارية داخل هذه الدول (كما هو الحال في فرنسا واليابان) فليس لها أهمية كبيرة في ما يتعلق بالسلطة السياسية. والميزة المفترضة لهذه الدول هي أن المصالح المحلية يمكن أن تُمثَّل من دون الاستعانة بهيئات محلية، وأن الحكم الفيدرالي يسير باتجاه إضعاف فعالية الدولة من خلال توزيع السلطة بين هيئات محلية كثيرة.

في السنوات الأخيرة، كان هناك ميل إلى اللامركزية في العديد من الدول، حيث إن هذه العملية التي يُطلق عليها اسم اللامركزية تتنازل فيها حكومة مركزية عن سلطات تابعة لها إلى سلطات محلية، أصبحتت رائجة لأسباب مختلفة. ففي بعض الحالات، يُنظر إلى هذه العملية على أنها طريقة لزيادة شرعية الدولة من خلال تقريب السلطة السياسية إلى المواطنين، الأمر الذي كان مصدر قلق  متعاظم مع توسع رقعة الدول وتعقيدها. وفي حالات أخرى، يُنظر إلى اللامركزية على أنها طريقة لتسوية بعض المشاكل كالاختلافات الإثنية والدينية، عن طريق منح مجموعات معينة استقلالية أكبر. قليلاً ما يؤدي هذا مباشرة إلى قيام نظام حكم فدرالي، لكنه يؤدي فعلياً إلى تخلي الحكومة المركزية عن سلطات هامة كانت تملكها.

قبل التوسع في مفهوم المركزية، لا بد من التوقف أمام مفهوم برز هو"الديمقراطية المتقدمة" الذي يرتبط بمفهوم اللامركزية، فما هي "الديقراطية المتقدمة"؟



تحدث الباحثون عن دول "الديمقراطية المتقدمة" باعتبارها تنتمي إلى "العالم الأول" وهو ما يعني أنها متطورة اقتصادياً وديمقراطية. وكانت تعارَض بالعالم الثاني أو الدول الشيوعية، أو "العالم الثالث"، أي جلّ الدول الأقل تطوراً. كان تصنيف الدول في هذه "العوالم" الثلاثة دائماً أمراَ إشكالياً بما أن عوامل مختلفة بتشكيلات مختلفة حول العالم غالباً ما دحضت هذه الفئات. إن صعود الاقتصاديات المعتمدة على النفط في الشرق الأوسط على سبيل المثال، خلق دولاً بمستوى عالٍ من الثراء، لكن هذا الثراء يعتمد على الموارد الطبيعية  التي تسيطر عليها الدولة وليس على الملكية الخاصة أو الأسواق الحرة. كما أن زيادة الثروة في هذه الدول لم يترافق مع تحرّكنحو الديمقراطية الليبرالية. ومع انتهاء الحرب الباردة وانهيار الشيوعية، أصبحت مقاربة "العوالم الثلاثة" أكثر مدعاة للغط مع تبنّي العديد من الدول الصناعية والشيوعية السابقة النهج الرأسمالي  والديمقراطية الليبرالية بنجاح، بينما واجهت دول أخرى انحداراً اقتصادياً واستمراراً للحكم الاستبدادي. ومع مرور الزمن، لم يعد هناك الكثير من العوامل المشتركة بين هذه الدول، باستثناء التاريخ.

وبدلاً من مقاربة "العوالم الثلاثة"، نستخدم مصطلحات: الديمقراطيات المتقدمة، الدول الشيوعية وما بعد الشيوعية، الدول النامية والأقل تطوراُ.

وما تشترك به الديمقراطيات المتقدمة ليس مجرد الأنظمة الديمقراطية الليبرالية، بل أنظمة اقتصادية رأسمالية أيضاً (ليبرالية أو ديمقراطية اجتماعية أو ميركانتيلية) يهيمن فيها قطاع الخدمات. وبالإضافة لى ذلك، تعارَض بدول فقيرة ذات مرتبة متدنية على مؤشر التنمية البشريةوتفتقر إما إلى فطاع صناعي وخدماتي قوي، أو إلى ديمقراطية ليبرالية ممأسسة، أو إلى الاثنين معاً.

ولا يزال الاندماج يُشكل قوة دافعة في العديد من الديمقراطيات المتقدمة على الرغم من المعارضة التي يواجهها. في حين تواجه ديمقراطيات متطورة كثيرة، في الوقت نفسه، الدفع باتجاه اللامركزية من قاعدة المجتمع. ذلك أن اللامركزية هي العملية التي يتم فيها نقل السلطات والموارد من مؤسسات الدولة المركزية إلى مستوى أدنى. الأمر المثير هنا هو أن هذه العملية عكس للتطور التاريخي للدولة، الذي تجدر الإشارة إلى أنه قام على تمركز السلطة عبر الزمن، فعلى مدى عقود، تم نقل سلطات أكبر وأكبر من المستوى المحلي إلى الوطني في مسائل مثل الرعاية الاجتماعية. لكن كانت هناك توجهات في الديمقراطيات المتقدمة مؤخراً لإعادة توجيه السلطة في الاتجاه المعاكس.

لكن ما هو سبب هذ الانقلاب الظاهر؟ يخشى الكثير من القادة السياسيين في الديمقراطيات المتقدمة من أن يُسيء الشعب الظن بالدولة وينظرون إليها باعتبارها كبيرة جداً وبعيدة عنهم جداً وغير مرنة جداً. يُنظر إلى اللامركزية باعتبارها طريقة لمواجهة سوء الظن هذا من خلال جعل الحكومة أكثر قرباً من الناس، وبالتالي زيادة السلطة والمشاركة المحلية. وقد تُساعد اللامركزية أيضاً على إعطاء صوت للجماعات المحلية الأكثر

 تنوعاً، مثل الأقليات الإثنية، عبرمنحهم سلطة أكبر على شؤونهم المحلية. وبإعطاء صوت أكبر للناس وزيادة قدرتهم على رسم السياسات، يُؤمل أن تنتعش الديمقراطية من جديد.



لكن، كيف تحدث اللامركزية في الواقع؟ إحدى الطرق هي نقل المسؤولية والتمويل إلى السلطات المحلية، وبإعطائها دوراً أكبر في رسم السياسات وتنفيذها. فعندما تمتلك المؤسسات المحلية سلطة ومسؤولية أكبر تكون قادرة على صياغة السياسات التي تلائم ظروفها الخاصة. وقد حصل مثل هذا النوع من اللامركزية في الولايات المتحدة الأميركية خلال التسعينيات عندما أدى إصلاح نظام الرعاية الاجتماعي إلى نقل عمليات التمويل إلى الولايات التي غدت قادرة على استخدام هذه الأموال في صياغة وتنفيذ سياسات رعايتها الاجتماعية الخاصة. وبالطريقة الأخرى هي خلق مؤسسات سياسية جديدة تماماً توفر مستوى جديداً من المشاركة العامة. ومن الأمثلة على هذا النوع من اللامركزية شوهد في كندا عام 1999 عندما أنشئت مقاطعة جديدة كلياً هو بإنشاء هذه المقاطعة الجديدة منح السكان الأصليين من شعب إنويت Inuit حكماً ذاتياً وسلطة محلية على موارد المنطقة الطبيعية التي يعيشون فيها. وبالمثل، أنشئت المملكة المتحدة في عام 1999 هيئات تشريعية جديدة منتخبة بشكل مباشر في مناطق اسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية. وقد شجع الاتحاد الأوروبي نفسه، كجزء من عملية الاندماج فيه، على اللامركزية باعتبارها طريقة لإعطاء المصالح المحلية والإقليمية صوتاً أعلى في الحكومة، حتى إن تم نقل المزيد من السلطات إلى المستوى الأعلى في الدول الأعضاء. وقد تم تطبيق اللامركزية في العديد من الديمقراطيات المتقدمة بدرجات متفاوتة.

وكما هو الحال  مع الاندماج، ليس مؤكداً ما إذا كانت اللامركزية تمثل توجهاً في الديمقراطيات المتقدمة ستستمر في التوسع والترسّخ مستقبلاً، وليست تبعات هذه العملية واضحة أيضاً على المدى الطويل. وقد تكون اللامركزية وسيلة لإعادة بناء المشاركة الديمقراطية من خلال جعل المجتمع يملك مسؤولية أكبر في صنع السياسة. لكنها ربما تقوّض، في الوقت نفسه، إمكانيات واستقلالية الدولة المركزية، لاسيما إذا ترافقت مع الاندماج، لأن عندما تكون اللامركزية استجابة لصراع إثني، فقد تعمل على تسوية هذه المسائل أو ربما تزيد المطالب بالسيادة، ويتوقف ذلك على طريقة هيكلة الإصلاحات المؤسساتية. ففي المملكة المتحدة قطعت اللامركزية شوطاً بعيداً في إنهاء الصراع الديني بين الكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا الشمالية. لكن اللامركزية في بلجيكا لم تحل النزاعات بين السكان الناطقين بالفرنسية وأولئك الناطقين بالفلمنكية، وقد زادت حدة الاستقطاب في البلاد مع مرور الزمن.

وأخيراً، يمكن القول إن التوجه نحو اللامركزية في الديمقراطيات المتقدمة ربما قد يكون وصل إلى حدوده القصوى. ففي أعقاب 11 أيلول/ سبتمبر والهجمات المتطرفة الإرهابية في أوروبا، ابتعد عدد من الديمقراطيات المتقدمة عن اللامركزية بطرق هامة، فأخذت تعمل على مركزة وزيادة إمكانياتها واستقلاليتها كوسيلة لمواجهة تهديد الإرهاب والتعامل مع الهجرة (وهما قضيتان متوازيتان). وتم إضعاف هدف الاتحاد الأوروبي في خلق أوروبا مكونة من مناطق قوية جداً. وكما هو الحال مع الاندماج، تؤثر الظروف الداخلية والخارجية في وتيرة اللامركزية وقوتها. وليس منذ زمن طويل، إعتبر مراقبون أن الاندماج واللامركزية هما عبارة عن عمليتين جارفتين لا يمكن للدول أو المواطنين إيقافهما. لكن الأمر قد لا يكون كذلك.


لذلك تُعَدّ الديمقراطيات المتقدمة من نواحٍ عديدة فريدة من نوعها، سواء في مؤسساتها وفي التحديات التي تواجهها. وعلى الرغم من أن هناك اختلافات بينها، تتميز هذه البلدان بالديمقراطية الليبرالية ومستويات عالية من التطور الاقتصادي. إنها تمثل، في أوجه كثيرة، ما نعتبره حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية معاصرة. لكن ليست أية مؤسسة من هذه المؤسساتثابتة لا تتغير. تجد سيادة الدولة نفسها أمام تيارين توأمين اللامركيز والاندماج. وبالمثل، تمر المبادئ الاجتماعية في حال تغيّر وتبدل، بما أن قيم ما بعد الحداثة تتحدى الوضع الراهن، وهي بدورها موضع تحدِ أيضاً. فقد أفسحت الهياكل الصناعية الحديثة المجال أمام اقتصاد جديد مبني على المعلومات يمكّن بعضهم ويطيح بآخرين. وستؤثر التغيرات الديموغرافية في كيفية توفير الدول السلع العامة لسكانها. يمكن لكل هذه العوامل مجتمعة أن ترسم ملامح التوازن الحالي بين الحرية والمساواة
.

أما بعد، وبالعودة إلى  لبنان الفينيق !! يذكر وزير الخارجية  السابق فؤاد بطرس في مذكّراته أن الرئيس الياس سركيس كلّفه في مطلع عهده إعداد ورقة إصلاحية لتكون مدخلًا للوفاق. بعد لقائه الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميّل ونيله موافقتهما، زار بطرس الرئيس سليمان فرنجيه ليناقش معه الموضوع. كان الزائر يتوقّع أن يمضي مع مضيفه "بضع دقائق" يُطلعه خلالها على الورقة الإصلاحية ويحصل على موافقة منه عليها. إلّا أن الاجتماع دام أكثر من "ساعتين ونصف ساعة" رفض خلاله الرئيس فرنجيه المقترحات المطروحة في مسودة الوفاق الوطني، وقال:

 "كيف نتنازل ونعطي ما سبق لنا أن رفضناه؟ لقد رفضتُ أثناء ولايتي التنازل عما يضعف رئاسة الجمهورية". ويتابع بطرس: "مفاجأة الرئيس فرنجيه الكبرى يومذاك كانت اعتباره أن الفيديرالية هي الحل الأنسب للبنان"!


في المرحلة عينها، وبالتحديد في 21 كانون الثاني/ يناير 1977 وفي حضور الرئيسين كميل شمعون وسليمان فرنجيه، الشيخ بيار الجميّل، الأباتي شربل قسّيس وسائر الشخصيات التي كانت تشكّل الجبهة اللبنانية، عقدت الجبهة خلوةً مغلقة في دير سيّدة البير استمرّت ثلاثة أيام، صدرت في نهايتها سلسلة مقرّرات وتمّ فتح النقاش حول مواضيع كانت ولم تزل من المواضيع الحسّاسة المحرّمة. وقد ورد في البيان الختامي موضوع "اعتماد تعدّدية المجتمع اللبناني أساسًا في البيان السياسي الجديد للبنان الموحّد، تعزيزًا للولاء المطلق له، ومنعًا للتصادم بين اللبنانيين، بحيث ترعى كلّ مجموعة حضارية فيه جميع شؤونها، وبخاصة ما تعلّق منها بالحرّية وبالشؤون الثقافية والتربوية والمالية والأمنية والعدالة الاجتماعية، وعلاقاتها الثقافية والروحية مع الخارج وفقًا لخياراتها الخاصة". ووضع يومذاك الجبهة اللبنانية رؤيتها في كتيب أصدرته تحت عنوان "أي لبنان نريد
".

ودارت لعبة الحرب بين الكر والفر، وطحنت البشر والحجر، وأعلنت وثيقة الطائف، التي أوقفت دوامة العنف والدم، ووضع بند حول "اللامركزية الإدارية" حيث ورد في النص الحرفي للوثيقة التي صوّت عليها النواب في الطائف ما يلي:


  1. الدولة اللبنانية دولة واحدة موحدة ذات سلطة مركزية قوية.
  2. توسيع صلاحيات  المحافظين والقائمقامين وتمثيل جميع إدارات الدولة في المناطق الإدارية على أعلى مستوى ممكن تسهيلاً لخدمة المواطنين وتلبية لحاجاتهم محلياً.
  3. إعادة النظر في التقسيم الإداري بما يؤمن الانصهار الوطني وضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات.
  4. اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى (القضاء وما دون) عن طريق انتخاب مجلس لكل قضاء يرأسه القائمقام، تأميناً للمشاركة المحلية.
  5. إعتماد خطة إنمائية موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً، وتعزيز موارد البلديات والبلديات الموحدة والاتحادات البلدية بالإمكانات المالية اللازمة.

لكن لغاية اللحظة ما زال هذا البند بين أخذ ورد رغم وجود لجنة نيابية فرعية تتمثل فيها القوى السياسية كافة، ترأسها النائب الراحل روبير غانم، ومن ثم النائب جورج عدوان تنسق وتعد الخطط والمقترحات للوصول إلى ما دون الفيدرالية وما هو أعلى من اللامركزية الإدارية الموسعة دون نهاية إلى تبلور شيء ملموس، علماً بأن القوى السياسية قامت بالانقلاب على اتفاق الطائف، حيث شرعت وتبلورت فيدرالية هجينة أصطلح على تسميتها "فيدرالية الطوائف".

والملفت بأن الفصيل الأقوى في لبنان، كان في أواخر العام 1999، قد قام عبر "المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق" وهو مركز تابع لـ "حزب الله" وكان يرأسه علي فياض أنذاك، الذي أصبح نائب عن البرلمان اللبناني فيما بعد، قد عقد حلقة نقاش حول "اللامركزية الإدارية المحلية" وجاء في نهاية المستخلص للدراسة التي أعدت وفق الباحثين ونقاشهم في خاتمة المستخلص :"(...)أن هذا الخيار المناسب لتطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة لا يعدو كونه خياراً تنظيمياً تبناه خبراء متخصصون في الإدارة والتنمية في إطار رؤية تنموية إدارية تنظيمية شاملة، وبالتالي فإن تبنيه سياسياً يتطلب إلى جانب قوننته كمشروع للامركزية الإدارية المحلية، إجراء تعديلات عليه تستند إلى رؤية سياسية تتفهم معطيات الواقع السياسي اللبناني والمناخ السياسي السائد وقواعد اللعبة وحركتها السياسية. هذه التعديلات التي تعطيه المعنى والنوعية وترفده بمستلزمات الحركة النابضة".

ولكن تم الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، وتتابعت التطورات السياسية والتجاذبات.


تم إغتيال الرئيس رفيق الحريري، الذي أرخ لوجه مغاير، وتسارعت الأحداث ورسمت دماء رفيق الحريري وغيره خارطة طريق انسحاب القوات السورية من لبنان، ولكن لم يفلح اللبنانيين في بناء وحدتهم الوطنية، واستمرت الصراعات السياسية مع خضات أمنية وأهتزازات تلامس العودة إلى فهوة أستون الحرب، في ظل تغيرات كبرى في الإقليم، ما بين سقوط صدام حسين، وأنفجار ما عُرف ب "ثورات الربيع العربي"، وصولاً لأنفجار الأزمة السورية، كانت المنطقة كلها غارقة
  في لعبة الحرب، ولبنان يسعى لعدم تجرع كأس الحرب المدمرة مجدداً، لكن الحرب استعرت وكأن لا اتفاق طائف، ذلك أن إتفاق الطائف نجاح فقط بإيقاف دورة  القصف الصاروخي والمدفعي العشوائي وتبوأ أمراء الحرب المراكز والمناصب وتوزيع مقدرات كغنائم فيما بينهما كمكافأة لحربهم ليس أكثر، بينما صراعات الزواريب والاغتيالات والتصعيد الكلامي المذهبي والطائفي في أعلى مستويات بشكل يفوق الخطاب السياسي السائد أيام العنف المدمر. 


ولم  ولن ننسى التهديد الإسرائيلي حيث حاولت إسرائيل تدجين القوة المركزية في لبنان أي "المقاومة" في تموز 2006. فكانت نتيجة الحرب اهتزاز صورة الإسرائيلي القوي القادر على الحسم، كما أرخت هذه الحرب بظلالها على المشهد السياسي، حيث تبين وجود حلفاء جدد كانوا مستترين لإسرائيل، مما أحدث إنقسام ما فتئ يرخي بأثقاله على الواقع السياسي اللبناني وتشرذماته، وفي ظل كل ذلك، وفي وقت لاحق جاءت مطالبة البطريرك الماروني مار بشارة الراعي بطرح خيار "الحياد"، في وقت كان لبنان يوغل في عمق هاية الانهيار الاقتصادي والمالي والإفلاس وفي غياهب الفساد  والضياع، جاء من يصرخ "ثورة" و"كلن يعني كلن" مما أدى إلى استقالة سعد الحريري وسجالات واستشارات وخزعبلات سياسية ما أنزل الله فيها من سلطان، وفي غروب يوم 4 آب 2020 حصل ما حصل، وفي ظل فيروس كورونا، دخلت البلاد في نفق معتم قد لا يُعرف له نهاية في المدى المنظور. 



وفي ذروة التشرذم المذهبي والطائفي، والافلاس، ما كان من قائد القوات اللبنانية سمير جعجع في أيلول/ سبتمبر 2020 أن توجّه بحزم الى دعاة طرح المثالثة أو المروّجين له بالقول إنّهم مخطؤون في الكلام عن مؤتمر تأسيسيّ والتهويل به، على طريقة أنهم الأقوياء ونحن الضعفاء. وإذا كان لا بدّ من مؤتمر تأسيسيّ فإنّنا من سيضع البندين الأول والثاني على قائمة البنود: اللامركزيّة الموسّعة والحياد؛ مع الاشارة الى أن هناك تصوراً كاملاً لدى القوات حول كيفية تطبيق اللامركزية الموسعة".



وفي ظل كل ما تقدم أعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري "إتفاق إطار" لترسيم الحدود البحرية والبرية مع إسرائيل، ورغم أن البلاد تعيش أزمة كيانية وسياسية وحكومية، وتشرذم وانهيار إقتصادي وإفلاس ... تدور مفاوضات مع إسرائيل على وقع ضمانات أميركية بتوفير جو إيجابي والتزام بتفاهم نيسان 1996 والقرار الأممي 1701.



وفي الختام، أصوات تطالب باللامركزية، ومفاوضات تشهد جولتها الثالثة بوفيه مفتوح للمفاوضين، وفراغ حكومي، وافلاس...ويبقى السؤال لبنان أين...وليس إلى أين؟ لبنان الواحد الموحد السيّد الحر المستقل أين ؟

 


 

أين لبنان... متى يولد لبنان، نعيش مخاض الولادة منذ لحظة بدء المئوية...

فهل ستولد التوائم الهجينة كيانات لتنعم بغاز (نعمة أم نقمة!!) ...في وطن عرف كل الغزاة على مدى التاريخ...

لبنان أين يا أهل الحل والعقد ...؟؟؟ فللأسف كلنا نعرف: لبنان إلى أين؟ ...فهل من ضمير مُجيب...قبل مغيب وطن لم نحفظه كالرجال الرجال...

 



ليست هناك تعليقات:

مشاركة مميزة

  حصــــــــــــار المفـــكــــريــــــن الاستراتيجية والاستراتيجية المضادة المطلوب الثبات بصلابة أمام" حصار الداخل والخارج: إن التص...